ليس هناك ما هو أكثر جوراً من الميزان -أداة العدل ومظنّة الإنصاف- حينما تتساوى في كفّتيه قيمة الروح البشرية، وقيمة تفصيلٍ فقهيٍ مختلفٌ بشأنه، كل محاولة لتعديل هذا الميزان أو تزكيته، ستكون عبثاً لا طائل من ورائه، وكل عذرٍ يسوقه من أقام هذا الميزان، سيكون ظلماً لا يمكن تبريره ولا يُقبل تأويله. وقد تناولت وسائل الإعلام خلال الأيام الماضية خبراً غريباً وموجعاً، ألا وهو خبر وفاة طالبة في جامعة الملك سعود، بسبب منع الإسعاف من الدخول للحرم الجامعي لإنقاذها، بعد أن تعرضت لأزمة قلبية، وتمّ منع رجال الإسعاف من الدخول للحرم الجامعي تحت دعوى عدم ارتداء الطالبات حجابهن، مما سيؤدي إلى انكشافهنّ على المسعفين!! ولعدم صدور بيانٍ رسمي -حتى كتابة هذا المقال- ولتعدد الروايات، وتناقضها، فلن نتحدث هنا عن حيثيات هذه الحادثة وتفاصيلها، بل سنكتفي بفرضية حدوثها قياساً على حالاتٍ سابقة، كالحريق الشهير الذي وقع في إحدى مدارس مكة المكرمة، الذي توفي بسببه ما يقرب من عشرين طالبة، وكذلك الحريق الذي حدث في إحدى مدارس جدة، وذهب ضحيته عدد من الطالبات والمعلمات، في تلكما الحادثتين تمّت الإشارة صراحة إلى منع رجال الدفاع المدني والإسعاف من الدخول من قِبل بعض حرّاس المدرسة وبعض الموجودين من مدّعي حراسة الفضيلة، وهذا ما يُثبت أن عدداً مؤثراً من أبناء هذا المجتمع يعتقد أن إزهاق نفسٍ معصومة أهون إثماً عند الله من رؤية الرجال لامرأة غير متحجبة!! هذه العقلية -التي تهوي بقيمة النفس البشرية من العلو الذي وضعها فيه خالقها سبحانه وتعالى، فيما ترتفع بقيمة بعض الأحكام الفقهية المتنازع إمّا في ثبوتها أو في كيفيتها كقضية الحجاب، إلى مكانٍ لم يضعها فيه ربنا سبحانه وتعالى- تنطلق مع الأسف من خليطٍ من المفاهيم المغلوطة، هذا الخليط الذي نشأ من عدة عواملٍ يمكن إجمالها فيما يلي: الرأي الفقهي السائد في قضية الحجاب خصوصاً وقضايا المرأة عموماً، العادات والإرث الاجتماعي في التعامل مع المرأة، وأخيراً تحول كل ما يتعلق بالمرأة إلى ورقة جاذبة وساترة في صراع التيارات المختلفة في المجتمع.
ولابد حين التطرق للرأي الفقهي في مسألة الحجاب من تقرير حقيقتين في غاية الأهمية، أولاهما ثبوت أصل الحجاب في الإسلام عند جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، والثانية عدم وجود صفة واحدة متفق عليها للحجاب، ومن هذا التفاوت الكبير في صفة الحجاب من مذهبٍ إلى آخر، ونتيجة للتنازع الكبير بين أصحاب هذه المذاهب، تمَ تضخيم قضية الحجاب بشكلٍ لا يسنده دليل ولا يشفع له منطق، حتى أصبح الحديث عن الحجاب وصفته وكأنّه حديث عن أصلٍ من أصول الدين، وليس عن حكمٍ فقهي من مسائل الفروع. وقد استقر أمر الفتوى في مجتمعنا، على أكثر الأقوال الفقهية تحوطاً وتشديداً في صفة الحجاب، فتّم أطر الناس على هذا القول وإلزامهم به، فأصبح القول بتحريم كشف الوجه هو القول الوحيد في المسألة!! ثمّ تطور الأمر إلى كشف الكفين، فأصبح ذلك من المحرّم كذلك، إلى أن وصل التحوط والتشديد إلى لون العباءة ونوعها، وسيستمر هذا السباق المحموم في التضييق والتحوط إلى أن يأذن الله بزواله. ورغم مخالفة هذا القول لما عليه أكثر علماء المسلمين في الماضي والحاضر، وعدم صحته عند الغالبية الساحقة من المسلمين، إلا أنّه قولٌ من أقوالٍ كثيرة في صفة الحجاب، ويحق لمن اختاره أن يعمل به، ولكن ليس من حقه فرضه على الناس وإلزامهم به. وقد نشأ من فرض هذا الرأي في صفة الحجاب خللٌ فادح وظلمٌ بيّن في التعامل مع المرأة، فتمّت محاصرتها بالحجب وبالفصل في جميع مناشط الحياة، وأصبحت النظرة الدونية ملازمة لها، بصفتها عورة يجب التحرج من ظهورها أو التلفظ باسمها، بل تجاوز الأمر ذلك إلى المرأة نفسها حيث أصبحت تتصرف وكأنّها ناقصة الأهلية، وتحتاج إلى من يسيّر حياتها نيابة عنها، كما هو الحال مع صاحبات شعار «ولي أمري أدرى بأمري»! وكلما تضخمت قيمة الحجاب بغير وجه حق، نقصت قيمة المرأة، حتى رأينا من يضحي بحياتها في سبيل عدم كشف وجهها على رجال الدفاع المدني أو المسعفين! ولإدراك مقدار التضخم الذي لحق بموضوع الصفة الشرعية للحجاب في مجتمعنا، يستطيع القارئ أن يقارن بين عدد الفتاوى في قضية فقهية فرعية كالحجاب وصفته، وبين عددها في قضايا أخرى أكثر أهمية، كحرمان المرأة من حقها الشرعي في الإرث، أو عضلها، أو عدم تمكينها من حقها الشرعي في حضانة أطفالها. ولم يكن فرض هذا الرأي في الحجاب لينجح في مجتمعنا، لولا وجود قابلية كبيرة لظلم المرأة في تراثنا وتقاليدنا الاجتماعية، هذه القابلية التي تشكلت في العصور الجاهلية قبل الإسلام، حيث كانت المرأة -في المجمل- سلعة زهيدة وعاراً يحسن التخلص منه، ثم جاء الإسلام فوضع المرأة في مكانها الطبيعي الذي تتساوى فيه مع الرجل في الحقوق والواجبات إلا فيما أمر الله فيه بالتفضيل بينهما، وظلت في هذه المنزلة الرفيعة في العصر النبوي وفيما بعده من عصور الإسلام الزاهرة، إلا أن هذا الوضع الطبيعي للمرأة لم يستمر طويلاً، حيث عادت العقلية الذكورية إلى حالها قبل الإسلام، فسلبت المرأة كثيراً من حقوقها، وكلّفتها بواجباتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، حدث هذا الظلم تحت ظل العادات والتقاليد التي تحالفت مع الأقوال الفقهية المتنطعة الشاذة، مما جعل كثيراً من النساء في عصرنا يتعرضن لظلمٍ قد يقترب من ظلم عصور الجاهلية الغابرة، وهذا ما لا يستطيع المنصف المتجرد نكرانه. ثم كانت ثالثة الأثافي التي استقرت عليها مظلومية المرأة، أن صيّرتها التيارات المتنازعة ورقة للمزايدات الرخيصة وسلاحاً لتحقيق الانتصارات التافهة، والحقيقة التي لا يمكن التغافل عنها، أن تيارات اليمين وتيارات اليسار في مجتمعنا بمختلف درجاتها لم تحقق شيئاً للمرأة، فهذه التيارات رغم دعاواها العريضة وصراخها الدعائي لم تتعامل مع قضايا المرأة بالصفة الشرعية الحقوقية التي غايتها رفع الظلم عنها، وإعادة ما سُلب منها، ووضعها في مكانها الطبيعي، بل تعاملت مع هذه الحقوق وكأنها مكاسب تفاوضية في صراع التيارات العبثي، يمكن التنازل عنها أو تأجيلها بموجب ما تقتضيه المرحلة الحالية من الصراع.
ويجب أن نختم هذا المقال، بمطالبة الجهات الرسمية، بوضع التشريعات التي تمكّن رجال الدفاع المدني والمسعفين ومن في حكمهم، من الدخول إلى أي مكانٍ تستدعي الحاجة دخولهم إليه لحفظ الأرواح والممتلكات، كما يجب سنّ القوانين التي تجرِّم كل من يعيقهم عن القيام بعملهم كائناً من كان.
التعليقات