رغم رحابته واتساعه وجماله واثارته إلا أنه يضيق بنا حيناًً ويسد الأفق أمامنا . تلك هي فضاءات الكتابة ودهاليزها. إنها نسيج من الحروف وخليط من المعاني يخالج قلوبنا ويقض مضاجعنا ويهز نفوسنا. فلا نملك حياله سوى التسليم والاسراع نحو القلم الذي غط في سبات عميق لنوقظه على عجل كي يقتنص شوارد الأفكار ويرتمي بكل قوته في بحر الألفاظ عله يعانق حرفاً هائماً في بيداء اللغة أو يجد بضع كلمات معبرة يغازلها ويبثها اشواقنا ومشاعرنا القابعة في أعماق قلوبنا.
في فضاء الكتابة ثمة أسئلة تتربص بنا وكأني بها تنتظر الإجابة على أحر من الجمر. تلك الأسئلة لا تراوح مكانها ولو للحظة وهي في حالة ترقب دائم. فضاء الكتابة كالمحيط لا ساحل له. ولكونه بذلك الاتساع وتلك المساحة الهائلة تهيم معه نفوسنا وتسافر ارواحنا فيه بعيداً .حتى ليخال لها أنها ليست في دنيا البشر بل في عالم آخر. فضاء الكتابة ممتع وشيق وبالذات حين يعتريه الصفاء والإشراق. أما حين تعلوه الغيوم والعواصف فهو هادر لا يرحم. تمطره الحروف بمباهجها وتفتنه الكلمات بمرورها.
لتتحول الأجواء إلى حفلة راقصة واحتفال بهيج. وحين تزمجر رعود الكتابة فهي بلا شك تعدنا بأجواء حالمة ونسمات لطيفة تطرق أبواب قلوبنا وتخالج حنايا أرواحنا . للكتابة جرس موسيقي اطرب لسماعه وابتهج بقدومه. للكتابة نشوة تغمرني لا استطيع الفكاك منها إلا بتسطير تلك الحروف الجميلة والكلمات العذبة في دفتر قلبي الذي يحوي بين صفحاته العديد من خواطر النفس وبوح الوجدان. تمتلك الكتابة عدة فضاءات وليس فضاءً واحداً ولديها رئات كثيرة تتنفس منها كما أنّ الكتابة تمتلك أبواباً كثيرة تلج منها لعالمنا الداخلي.
ولدى الكتابة القدرة على سبر اغوارنا وقراءة مشاعرنا وتلمس معاناتنا وعذاباتنا. أجواء الكتابة تمتزج بين الحلم والألم بين الامل والانكسار. تلك هي عوالم الكتابة تسبح مع الخيال وتطير مع الأمنيات وتسرج خيولها في ميدان الكلمات علّها تظفر في الوصول لخط النهاية وقد حملت معها بشائر الانتصار والفرح. ومع ما للكتابة من متعة ولذة وانشراح الا أنها كغيرها تعتريها سُحب الغياب وينتابها التوقف حيناً وربما يصيبها الهزال والضعف في بعض الأوقات. فالأمر أولاً واخيراً منوط بتدفق الأفكار وتزاحم الخواطر ووجود الأجواء المناسبة للانطلاق.
وعندها تبدأ رحلة مثيرة وممتعة بصحبة القلم الوفي الذي لا ينفك عن تقديم طاعته والخضوع لإرادة البنان الذي ما إن ينطلق ويبدأ في معانقة الورق حتى يغدو كفرسٍ أصيل لا يقف في وجهه شيء. وطالما كان الخيال والفكر حاضرين ومن بعدهما ثورة المشاعر وصدق الأحاسيس فاعلم أنّ هناك ثمة بوادر ابداع تلوح في الأفق. ولكي يستمر اليراع بتدفقه فهو يعتمد كلياً على الاستزادة من قوته اليومي الذي لا ينقطع ألا وهو القراءة. فالكتابة نار وقودها القراءة المستمرة.
كالبرعم الصغير ما أن يجد رائحة الماء حتى يستطير في داخله شغف الحياة والرغبة في النمو. مع الكتابة تزهر الروح ويفرح القلب وتسعد النفس وتشرق الآمال وتعود للجسد دورة الحياة من جديد. علمتني الكتابة عشق الجمال والتمتع بالحب والتلذذ بالعطاء. لقد وسعت نظرتي للحياة واهدتني طاقة عالية وشحنت نفسي بالرؤية المشرقة والنظرة الإيجابية. البستني الكتابة جلباب الفرح وهذبت أخلاقي وسلوكي وزادت من ثقتي بنفسي بل ودفعت بي لتطوير ذاتي وتجديد نفسي.
أنا مع الكتابة في عالم آخر. فالمساء لديّ له رائحة أخرى وشروق الشمس له حكاية مختلفة أمّا جمال الأجواء ونزول المطر فهو مشهد آخاذ يأسر قلبي فتهيم معه جوارحي. لقد أمدتني الكتابة وصحبة القلم بالقدرة على قراءة الموقف والانصهار في بوتقته. وبسب ذلك تتأثر مشاعري وتتفاعل احاسيسي بما أراه واسمعه او حتى أقرأه. يا للكتابة كم سرّت عني من حزن؟ وكم ذا نشرت في قلبي الفرح ؟ وكم غيّرت نفسيتي للأفضل ؟
همت بالكتابة ولا زلت هائماً بحبها في كل وقت وآن. وأنّى لمحبوب أن يتخلى عن محبوبه او يتنازل عن عشقه الأبدي ؟ إنها وحي روحي ومصباح قلبي وزهرة نفسي التي لا أريد لها أن تذبل. إنها السراج الذي يرافقني على الدوام لخوض معترك دروب الحياة. إنها اللسان الحاذق والجميل والمهذب يتحدث نيابة عني فلا اريد له أن ينقطع عن التعبير قدر المستطاع.
الكتابة صنوان روحي تعهدت لي بتنسيق داخلي وتهذيب وجداني وانارة طريقي. منها عرفت الحب واستمتعت بالجمال وابتهجت بالحياة. وعن طريقها تواصلت رسائل قلبي ولحظات متعتي. وما بيني وبينها من الحب والشوق والالتزام لا يمكن لي أن افرط فيه بسهولة أو أن اتنازل عنه. وحين تدلهم عليّ الخطوب وتتكالب عليّ الظروف وتحاصرني المتاعب.
فما عليّ سوى الإمساك بخطامها فتنساق معي وتكون طوع آمري. ولذلك كله فأنا التزم بعهودي معها على الاستمرار والتضحية والحب ففضاءها مميز وواسع يستوعب ما تجيش به نفسي وتبديه خواطري.
التعليقات