ما يعيشه العالم اليوم من فوضى معلوماتيّة ومعرفيّة، وما يصاحب ذلك من اختلاط المفاهيم هو نتيجة طبيعيّة للتحول الرقمي في طبيعة وملكيّة منصّات ووسائط نشر المعلومات وإشاعة المعرفة، إذ لأول مرة في تاريخ البشريّة تصبح أضخم منصّات النشر والبث وترويج القيم في قبضة شركات تجاريّة شرسة، من يضخّ محتواها وصلب بضاعتها هم جمهورها ومستخدموها في فضاء الـ “دوت. كم”. وهذه الشركات في نهاية الأمر تتحدّد اتجاهاتها عبر محرّكات السّوق في بورصة السوق العالميّة والأميركيّة على وجه الخصوص.
ولو أخذنا على سبيل المثال أبرز أربع شركات (بحسب إحصاءات العام 2022) نجد أنّ شركة فيس بوك (ميتا) تستحوذ على قرابة 2.93 مليار مستخدم نشط شهريًا، ولدى شركة إنستغرام 2 مليار مستخدم نشط شهريًا، وتظهر البيانات أن شركة تويتر تحوز على 229 مليون مستخدم نشط يوميًا يمكن تحقيق الدخل منه، أما شركة تيك توك التي عصفت بعقول الكبار والصغار فلديها أكثر من مليار مستخدم نشط شهريًا والعدد يزيد على مدار الدقائق.
ولو أخذنا فقط مظهر تسويق القيم والمفاهيم ونشر الثقافات فإن الخصم والقاضي فيما ينشر ولا ينشر هي هذه الشركات عبر منصّاتها التي بلغ من سطوتها أن منعت “ترمب” رئيس أكبر دولة من “حريّة التعبير” عن رأيه. كما تتعاضد هذه الشركات باسم الحريّة لحجب كل من ينتقد مفاهيم تنافي قيم الإنسان المثلى مثل ترويج الشذوذ الجنسي وغيرها من المفاهيم التي تعدّ عند معظم الثقافات دينا أو خُلقا مستقرّا. وهي ذات الشركات التي فتحت منصّاتها للدعوة للقتال في أوكرانيا في وجه الغزاة، وفي ذات الوقت تمنع كل صوت يؤيد أو يدعو للاحتجاج – لا أقول المقاومة – التي يحاول الفلسطينيّون بثّها أو شرح معاناتهم اليوميّة للعالم “المتحضر”.
والإشكال الأكبر وسط هذه الإشكالات أن معظم المحتوى الرقمي (الغث والسمين) ملك حصري لهذه الشركات حيت تكتنز مخازنها كل ما يبثّه الناس ليُعاد بيع (هذه القوة الناعمة) بضاعة رائجة لشركات التسويق ومؤسسات الأمن المجهولة والمعلومة، وحين يباهي مستخدم هذه الشبكات بفضاء الحريّة المتاح فهو بشكل أو بآخر يقدم حريته في حماية خصوصياته الشخصيّة قربانا لهذه الحريّة الرقميّة.
ويقول الخبراء إن هذه الخدمات والتطبيقات تُصمم بشكل أساس وفق تقنيات الإقناع واستغلال الضعف والحاجة البشريّة، وهذا ما اعترف به الرئيس السابق لـفيس بوك Sean Parker. وتكشف التقارير الغربيّة أن هذه الشبكات استُخدمت وتُستخدم بشكل مكثّف لتمرير المعلومات المضلّلة والدعاية لتشويه الحقائق وتشكيل الآراء حتى في أعرق الديمقراطيات الغربيّة، وهو مظهر متكرر الحال بشكل واضح في الانتخابات الأميركيّة منذ انتخاب “أوباما” عام 2009، كما رصدت تجاوزات استخدام ذات التقنيات في انتخابات البرلمان الأوروبي للعام 2019.
- قال ومضى: ما أبشع أن يكون ثمن وهم الحرية.. التضحية بالمزيد منها.
التعليقات