إن الكتابة في التاريخ، وعن التاريخ عمل مضنٍ، ولكنه في الوقت نفسه عمل مثمر، وممتع في آن؛ إنه عمل يحتاج إلى تتبعٍ وتعقبٍ وتحلٍ بقدر كبير من الصبر والصدق، والأناة، وإذا نظرنا إلى جهود الأستاذ الدكتور غيثان بن جريس في تدوين تاريخ الجنوب وجدنا أنه يمثل شغله الشاغل؛إذ يحاول أن يرصد تجلياته من جميع جوانبه، ومن ذلك تدوين ما قدمه الرحالة، وما كتبوه عن تاريخ الجنوب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى قيام غيثان بن جريس نفسه بكتابه تاريخ يستمد مادته من الرحلة الشخصية التي يقوم بها هو، ويعمد إلى استنطاق أهل المناطق التي يزورها، فيسجل ما يروونه، ويدون انطباعاته هو عن تلك المناطق التي يزورها، بعين المتأمل الباحث عن كل صغيرة وكبيرة، دون كلل أو ملل.
يقول أ. محمد معبر عن الرحلات والرحالة في مؤلفات غيثان بن جريس: ” وقد كان الجنوب السعودي مسرحًا لكثير من الرحالة عبر القرون السابقة، حيث دونوا ما شاهدوه في أماكن متعددة، ثم تناقلت الأجيال هذه المدونات التي حفظت لنا جانبًا مهمًا من تاريخ وحضارة هذه البلاد، بل إن بعض ما في ما في هذه الرحلات من المعلومات لا يكاد يوجد في غيرها من المصادر، ونظر د. غيثان بن علي جريس إلى هذا التراث فوجد فيه ثروة من المعلومات التاريخية والحضارية المتعلقة بمناطق الجنوب السعودي، وأدرك أهميتها، فأخذ على عاتقه مهمة استخلاص هذه المعلومات، ووضع لكل جهة أو منطقة بحثًا مستقلا أودع فيه مهمة استخلاص هذه المستخلصات، مع التحليل والمقارنة لما جاء فيها والتعريف بالرحالة ومدوناتهم منذ القرن الثاني للهجرة”.(ص7).
وهنا نلحظ تأطيرًا مهمًا لأهمية مدونات الرحلة في كتابة التاريخ، واهتمام د. غيثان بتلك المادة التاريخية، فضلا عن جانب آخر وهو ما قام به د. غيثان من ارتحال في جنبات الجنوب، ليسير على خطا الرحالة السابقين في كتابة المادة التاريخية، فغيثان بن جريس هو مؤرخ متعقب لجمع ما كتبه الرحالة، مسلمين وغير مسلمين،وهو رحالة في الوقت نفسه، بدأ رحلاته منذ (1412هجرية)، وحتى الآن في دأب وشغف لا يتوقف، ولن يتوقف وقد آتاه الله بسطة في القلق والتتبع والقدرة على الحشد والكتابة، فـ- (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)- فكتب تحت عنوان : محافظة القنفذة كما سمعت عنها ورأيتها، وهكذا عن نواحٍ من عسير، وجازان، والباحة وظهران الجنوب، وبارق، والطائف، …وتأتي كلمات” كما سمعت عنها ورأيتها” ” أو شاهدتها” لتكشف عن طريقة جمع المادة التاريخية، فهي تحيل إلى الرحلة والارتحال، وإلقاء السمع والبصر وإعمالهما في الجمع والتدوين.
***
ويأتي أ. محمد بن أحمد معبر ليشكل رديفًا، وصنوًا لصديقه غيثان فيكتب عن الرحلات والرحالة في مؤلفات غيثان بن جريس، فهو يكتب عن الكتابة، وبالشغف نفسه، وربما بالطريقة التأليفية نفسها التي تحتفي بالجمع، وتحاول أن تلتفت إلى الجانب النقدي، ولكنها تشيح عنه في كثير من الأوقات، إذ يأسرها الاستطراد والوصف، وتقديم المادة، أكثر من تحليل المادة والنفاذ إلى ما ورائها، وذلك أمر مطلوب في الكتابة التاريخية، وأمر مهم أيضًا، لكن الأهم والأعمق أن ينصرف الباحث إلى النقد والتحليل والنفاذ من تفاصيل الظاهرة إلى ما وراء الظاهرة، وإنك لتشعر بمدى الجهد الذي بذله أ. محمد معبر حين تنظر إلى رقم الصفحة الأخيرة في الجزء الثاني وهي تحيل إلى صفحات كتابين كبيرين (1104)، وهذا كم كبير من الورق كان جديرًا بالباحث أن يختزله إلى العُشْر من ذلك أو انقص منه قليلا، لكنك حين تقرأ تلك الصفحات أو تتجول في جنبات الكتاب تجد أمرًا آخر.
***
لقد ارتحل الرحالة في الجنوب وكتبوا عنه، وجاء غيثان بن جريس ليكتب عنهم ويرتحل مقتصًا آثارهم أو ما يشبه ذلك، وجاء محمد معبر ليرتحل في الكتابة عن الرحلات والرحالة في مؤلفات غيثان بن جريس، وأنا هنا عزيزي القاري ستجدني أكتب عن ما كتبه الثلاثة السابق ذكرهم، فأرتحل بحثًا عن غيثان وعن محمد معبر في آن.
***
لقد أشار أ. معبر في الكتاب إلى ركائز البحوث التي أنجزها الدكتور غيثان في هذا السياق فقال:” ومن ركائز كل بحث من الأبحاث السابقة ما يلي:
- التعريف بالرحالة..
- دراسة ثقافة الرحالة.
- مصادر الرحالة في مدوناتهم.
- التحليل والمقارنة.
ثم بين النطاق الزمني لاشتغال الرحالة، والنطاق المكاني كذلك، وهو جهد طيب، وتأطير علمي للاشتغال يحمد عليه أ.معبر المسكون بقلق الكتابة أيضًا.
ثم بين الكتاب رحلات الدكتور غيثان في الجنوب السعودي، فذكرها وذكر البنية التكوينية لكل رحلة من الرحلات، وبين أنها تنطوي على:
- التركيبة الجغرافية والبشرية.
- الحياة الاجتماعية.
- الحياة الاقتصادية.
- الحياة التعليمية والثقافية.(ص28-29)
وأشار المؤلف إلى أن الدكتور غيثان يسير في بناء الرحلة في مسارين هما:
- الجولات الميدانية.
- التفرغ بعد عودته من الجولات الميدانية لتدوين مشاهداته، مستعينًا بالكتب وبالوثائق ذات الصلة بالبلد الذي رحل إليه. (انظرص29) .
كما أشار إلى الأهمية العلمية لأبحاث الدكتور غيثان في تتبع الرحالة، وفي كتابة مشاهداته وانطباعاته ويرى أنه بذلك قد فتح للباحثين مجال تدوين التاريخ من خلال الرحلة، وكذلك فتح لهم بابًا في كتابه لاستكمال مسيرة البحث حول الرحالة ورحلاتهم في الجنوب السعودي.
وهنا كما يبدو لي في الصفحة (30) يتوقف عمل الأستاذ محمد معبر ليسلم الحديث للدكتور غيثان، فرتب ما كتبه ابن جريس ووضعه في الكتاب بجزأيه، وبذلك فإن أ. معبر يكون قد قام بجهد تجميعي لرحلات الدكتور غيثان التاريخية ولكتابته عن الرحالة في الجنوب السعودي، وكنا نترقب أن يقوم الباحث بنقد كتابة غيثان والكشف عن سماتها، وخصائصها من خلالها، لا أن يكتب انطباعاته بصفة عامة في مقدمة الكتاب ثم يأتي بما كتبه غيثان كما هو متعاقبًا في هذا الكم المتشكل في جزأين. ومع ذلك فأحمد له قلق الكتابة، والحياة مع الكلمة وبها، والانتماء إليها.
(7/صفر/1440هـ – 16/أكتوبر/ 2018م)
التعليقات