لا أزال أذكر ذاك السؤال الذي وجه لي في المقابلة الشخصية إبان تسجيل أوراقي في كلية الطب قبل نحو عشرين عاماً. والسؤال كان عن الكتاب الذي ألفه أبو الحسن علي الندوي. فأجبتهم بثقة أن عنوان الكتاب هو ( ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ! ).
في زيارتي لبرشلونة تلك المدينة الكتالونية الجميلة الواقعة في شمال الساحل الشرقي لأسبانيا والمطلة على ضفاف البحر المتوسط، جالت في نفسي التأملات، وهام عقلي بالخواطر، وأنا أرى كل تلك الحضارة المادية الباهرة، والظاهرة للعيان. تذكرت حينها مآثر المسلمين وحضارتهم، وكيف كانت هذه البلاد تحت حكمهم لقرون مضت، فقد كانت الأندلس منارةً من منارات العلم والريادة، تماماً كما كانت بغداد الرشيد، وقاهرة المعز، وحلب الشهباء، وغيرها من عواصم المسلمين. فتساءلت حينها، هل خسر العالم فعلاً بانحطاط المسلمين.
لا شك أن الحضارة الإسلامية العربية أسهمت في تقدم البشرية جمعاء، ودفعت الى تطور الحراك الإنساني بشقيه المادي الحسي، والروحي المعنوي. فأخذت من الحضارات والأمم السابقة، وأضافت اليها الكثير من العلوم والفنون. كانت حضارة العرب والمسلمين ظاهرة على العالمين يوم كانوا أهلاً لهذه السيادة، و رمزاً لتلك الريادة.
وصلت شمس حضارة العرب والمسلمين ذروتها إبان القرون الوسطى، فكانت لهم مدن وحواضر، حلقات وجوامع. وكانت مدنهم يتردد ذكرها عند الحديث عن العلوم والكياسة، ويرجى وصولها لطالبي الفنون والثقافة. تماماً كما يحدث اليوم عند ذكرنا لمعظم العواصم الأوروبية والغربية.
فكانت بلاد أصفهان شرقاً، والعراق والشام شمالاً، وبلاد الحجاز واليمن جنوباً، ومروراً بمصر وما ورائها من بلاد الشمال الأفريقي، وانتهاءاً بالأندلس، درة حضارة العرب والمسلمين. كانت عواصم تلك البلاد منارات للعلوم، وشارات للثقافة والفنون.
ما لبثت شمس العرب بعد ذلك في الغروب، وآذنت نجوم حضارتهم في الأفول، وبات علمهم ينتزع بموت علمائهم، وبدأت دفة القيادة لعربة الحضارة في الإنتقال تدريجياً لصالح أمم وشعوب أخر. سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ( ولولا دفع الله الناس بعضم ببعض لفسدت الأرض).
نعم إن حضارة البشرية قطار يسير، يقطع الأقاليم والأمصار، ويمر بالأمم والشعوب، وينزل في البلاد والعواصم، الواحد منها تلو الآخر. فيغدق على تلك البلاد مما يحمل من الخيرات والأرزاق، ويتزود منها ما يحتاجه من المؤن والأغراض، قبل أن ينطلق الصفير، مؤذناً بالرحيل لمحطة تالية، ووجهة ثانية.
فالحضارة الإنسانية كلٌّ لا يتجزأ، أسهمت فيه معظم الشعوب والأمم، وشاركت بناءه مختلف الدول والنحل، حتى وصلنا الى ما نحن فيه اليوم، ابتداءاً بحضارة اليونان والإغريق الأول، ومروراً بحضارات فارس والروم، ومن ثم ربيع العرب والمسلمين، وانتهاءاً بالحضارة الأوروبية الحديثة التي نعيشها اليوم.
وعوداً على بدء، هل خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، في تقديري الشخصي، أن الخاسر الأكبر من انحطاط المسلمين هم المسلمون أنفسهم، وأما الحراك الثقافي البشري بميزانه العالمي وامتداده الإنساني فهو ماضٍ قدماً بلا هوادة، فالقطار يسير وفق الخط المرسوم له، وعند الصافرة ينطلق من محطة لأخرى لا ينتظر من يتخلف عن الوعد، والخاسر حقاً هو من فاته القطار، وسار عنه الركب.
د. أحمد آل زيدان
برشلونة – غرة رمضان ١٤٣٥ للهجرة
التعليقات
تعليق واحد على "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين – للدكتور أحمد آل زيدان"
(هل خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، في تقديري الشخصي، أن الخاسر الأكبر من انحطاط المسلمين هم المسلمون أنفسهم، وأما الحراك الثقافي البشري بميزانه العالمي وامتداده الإنساني فهو ماضٍ قدماً بلا هوادة، فالقطار يسير وفق الخط المرسوم له، وعند الصافرة ينطلق من محطة لأخرى لا ينتظر من يتخلف عن الوعد، والخاسر حقاً هو من فاته القطار، وسار عنه الركب.)مقتبس من مقالك .
الذي يقرأ مقالك ولم يقرأ كتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) سيوافق كلامك والذي قرأ الكتاب ثم قرأ مقالك سيخالفك .