الأحد ٢٠ أبريل ٢٠٢٥ الموافق ٢٢ شوال ١٤٤٦ هـ

غيثان بن جريس “مؤرخاً” – كتبه د. حسين بن علي الزراعي

غيثان بن جريس “مؤرخاً” – كتبه د. حسين بن علي الزراعي

.

الباحث المؤرخ غيثان بن جريس، أود أن أكتب عن الخصائص العامة جدًا التي تطبع مؤلفاته. لكن دعوني بدايةً أصرح بملاحظة أساسية لاحظتُ أنها موجِّهٌ ضروري وباعثٌ من بواعث التأليف والكتابة عند غيثان بن جريس، وهي كذلك موجهٌ أوّل لكتابتي لهذه السطور.هذه الملاحظة تتعلق بخاصِّيَّتَيْ العفوية والبساطة، ويبدو أنه ليس مصادفة أن نجد تطابقًا كبيرًا بين المؤلِّف ومؤلفاته في الخاصيتين المذكورتين؛ فكثير من الناس يمكن تلخيص الكثير عنهم من خلال نتاجاتهم. من الواضح إذن أنني أُلَمِّحُ إلى أن عفوية الباحث وبساطته قد تسربتا إلى نتاجاته وكتاباته، لِنغادِرْ قليلًا هاتين الخاصيتين وسأعود إليهما كلما احتجت إلى استثمارهما في كتابة هذه الأسطر.

لكي أكون موضوعيًا أو لنقل صادقًا، فالإنشائية التي تظهر في كتابتي عن هذا العلَم تكشف عن حقيقة أنني بعيد جدًا عن التاريخ والمؤرخين، أو أنني “ضعيف في التاريخ” بالمعنى الأبسط، ومع ذلك أستطيع ، في حكم عام بالطبع، أن أجزم أن غيثان بن جريس مؤرخ عسير والجنوب، وهو قبل ذلك مؤرخ يعرف ماذا يريد من التاريخ، فهو مؤرخ له خصوصية خاصة فيما يمكن أن أسميه”بالتاريخ التوثيقي أو الوثائقي”، وأعني بهذه التسمية أن الوثيقة التاريخية هي أساس الكتابة عند صاحبنا. وإذا ما عدنا إلى خاصيتي العفوية والبساطة لنربطهما بفن الحصول على الوثيقة التاريخية نلاحظ أن غيثان لا يحاكم الوثيقة ولا يدخل في دهاليز التحليل؛ فالمحاكمة والتحليل مناقضان كليةً لمذهب العفوية والبساطة، ولو فعل صاحبُنا هذا لخرج عن السمات الشخصية والفنية المحددتين بتلك العفوية إلى سمات مختلفة كالتنافر والتعقيد والإغراب وغيرها مما ينسجم مع مذهب المحاكمة والتحليل أو التمحيص والفحص بمزيد من الأدلة والحجج.

في كتاب “القول المكتوب في تاريخ الجنوب” تأكيد على ما جاء في الفقرة السابقة لهذه الفقرة، فنرى بوضوح أن المرجعية المعتمدة في بناء هذا الكتاب مرجعية عفوية وبسيطة تتخذ من أقوال الناس مادة يسجلها المؤرخ بوصفها شاهدًا أصيلًا يسجل ما يصفه الناس بصورة عفوية وتلقائية يعدها المؤلف سندًا متصلًا بحوادثه ووقائعه.

إن لمنهج العفوية والبساطة نتائج مختلفة وله أيضًا تبعات، لكن دعوني أولًا أبين لمَ تكون العفوية والبساطة منهجا عند غيثان؟ هاتان الخاصيتان لا تظهر في مؤلف عند غيثان وتختفي في آخر، ولا تتجسد في فصل من فصول أحد كتبه وتمَّحي في آخر، بل إنهما أساس ما يحكم عمل هذا الرجل المثابر الكاشف الكشاف للكثير من الأمور التي يحتاج إليها المؤرخ وغير المؤرخ.

والآن أذكر في تلخيص شديد أهم النتائج وأهم التبعات المتمخضة عن الالتزام الصارم بمنهج العفوية والبساطة وأبدأ بالنتائج:

أهم نتيجة بدت أن غيثان قد أفاد منها بشكل مباشر تتمثل في عدم ضغط غيثان على التاريخ ليعترف بما لم يفعلْ، فترك الأمور والأحكام أشبه بما يفعل محقِّقٌ يأخذ أقوالًا عامة ليبني عليها في تقرير عام، ويلزم عن هذا أن الباحث لا يريد أن يتحمل مسؤوليةً صعبة من وراء أحكامه ليرمي بها إلى من يرغب في تحمل المسؤولية التي يمكن أن تنشأ من التحاليل و الأحكام. وفي حال أن المؤرخ يضغط على التاريخ أو يحاول ليَّ عنقه كما يفعل مؤرخون ليس من بينهم غيثان، فإن النتائج لن تكون بعفوية وبساطة نتائج غيثان. ومن النتائج التي أعجبتني أن الباحث يقدم الوثيقة ويترك التحليل لثقافة القارئ واطلاعه ولظروفه ولمكوناته الشخصية والمعرفية ولصلته بالأحداث. وهذا منهج علمي موضوعي يعمل به قلة قليلة في مجال التاريخ بالذات من متمرسي البحث العلمي في التاريخ وفي غير التاريخ.

أما التبعات فتتمثل في أن الباحث يتنازل ،تحت منهج العفوية ومتطلباتها، عن الالتزام بالضبط اللغوي والمنهجي وصياغة العبارة والنسج الأسلوبي وغيرها مما يرى البعض أنها جوانب مخلة. ولكن ، ومن وجهة نظري الشخصية جدًا، أرى أن هذه التبعات كانت لِتظهرَ عند كل من التزم منهج العفوية الصارمة شاء أم أبى، فأن يُكتبَ التاريخ ويُروى بلغة من رواه لهو أفضل من أن يتم التصرف في المادة التاريخية بالتعديل والضبط اللغوي وإعادة الصياغة وغيرها من التعديلات عن المادة الأصل، احتراما لمبادئ الحيادية والموضوعية التي رأى الباحث أنها التزام مُمنهج لخاصيتي العفوية والبساطة.

 

– غيثان جريس مؤرخاً – كتبه الدكتور حسين بن علي الزراعي

– أستاذ اللسانيات المشارك – بجامعتي صنعاء والملك خالد

– كلية العلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية وآدابها

.

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *