تظل الأمة العربية و الإسلامية قوية برجالها الأقوياء من العلماء و المفكرين و الباحثين ، بل إن الأمة المستوفية لشروط الحضارة هي التي تنتبه إلى فضل رجالها عليها و على غيرها بل عليها و على الإنسانية كافة ، فلا تأخذها الغفلة حتى يأتي من خارجها من ينبهها إلى أبنائها وعلو شأنها و يدخل ضمن هذه المنظومة أعضاء هيئة التدريس في الجامعات إذ بهم ترتقي المجتمعات و تستنير و بهم يصلح شأن المتعلمين و يستقيم .
ونحسب الأخ الدكتور غيثان بن علي بن جريس أستاذ التاريخ بجامعة الملك خالد أحد هؤلاء الأقوياء الذين يستمدون قوتهم من الله ثم من علمهم و من وطنهم بأمنه و استقراره و أول مظاهر هذه القوة اشتغاله بتاريخ وطنه و تعزيز هويته في معايشته للحياة و الواقع ، و ماتولد في نفسه من قناعات اهتزت لهذه القناعة مشاعر الوطنية و رغبة البحث في حياة الناس مؤمناً بيقين أن أموراً ينبغي أن تسجل و ترصد في و ثائق تاريخية كي لا تتبدل وتتخذ أشكالاً مغايرة لما هي عليه في الواقع فحاول أن يرصد بالكلمة و الصورة تاريخ جنوب البلاد السعودية أو ما يعرف بـ ( تهامة و السراة ) برؤية إبداعية ، يستضئ فيها التاريخي بالإنساني ، و يتواشج فيها الزمان بالمكان بل الأرض و الإنسان و نال الرجل استحقاقه الأكاديمي و الإنساني بوصفه مؤرخاً و أستاذاً جامعياً جسوراً ؛ فاستقامت شخصيتة بقيمها المثالية و الموضوعية في صورة رائدة و أنموذج فريد .
لقد اتخذ الباحث من الجنوب معادلاً جغرافياً لتنوير المتلقي بتاريخ المناطق السعودية و تبصيره بقيم الأرض و الإنسان في علاقات مشخصة يهتدي بها القارئ في مساحة الاشتغال العلمي بالتاريخ و الجغرافيا على حدٍ سواء و نراه يتجه بهذا التمثل نحو آفاق رحبة في عسير و جازان و القنفذة و نجران و الباحة بوصفها مناطق جغرافية تدخل ضمن هذه المساحة ثم بوصفها نماذج صالحة للمقاربة و مرايا يجلو بها المتأمل مناشط االتاريخ الإنساني أو ما يمكن الاصطلاح عليه بتاريخ الناس . و نقصد ما يتصل بالشخصية و آثارها من مقومات الوعي الإنساني و ما يتجاذبها من المعرفة الثقافية و الحضارية في الواقع .
لعل أول منطلقات النظر و التأمل في كتب المؤرخ غيثان بن جريس هو تلك الإشارات الجلية في مؤلفاته ال 32 كتاباً التي يحيلنا من خلالها إلى رصد و ثائقي في سياق كشف الماضي في علاقته بالإنسان من حيث خصوصية الأسرة و المجتمع و العمارة و البناء و الطعام و الشراب و اللباس و مظاهر الزينة فضلاً عن التوثيق المفصل لحياة الناس الاقتصادية ، إذ تناول الصيد و الرعي و الزراعة و الحرف و الصناعات و التجارة كما لم تغب عنه تفاصيل الوضع الجغرافي و التربية والتعليم و مناشط الثقافة و الفكر في أقاليم عسير و نجران و جازان و الباحة و القنفذة و ما له علاقة بالحدود و التركيبة السكانية و الأحوال المناخية و الحياة الاجتماعية و اختص مدينة أبها بعنوان ” أبها حاضرة عسير ” بدراسة توثيقية مستقلة جمع فيها من الخصائص و السمات التاريخية الجغرافية و السكانية فأوعى حاضرتها و موقعها الجغرافي و تراثها الحضاري من الأثار و المواقع السياحية و الموروث الشعبي حتى أنه لم يترك شاردة و لاواردة من حديث المدينة إلا وقص أطراف الحديث عنه بدافع الرغبة الصادقة – كما يقول – في الكتابة عن إحدى مدن الوطن الغالي فهي المدينة التي قضى فيها أكثر من عشرين سنة ثم لأن المدينة حظيت بالكثير من الكتابات وتوفرت لها المراجع و المصادر .
لقد حاول ابن جريس كما بدا لي من قراءة بعض الفصول و المباحث المتفرقة من كتبه أن يضئ جانباً من كيان الدولة و الهوية الوطنية في الجنوب فتحول الأمر أسلوب الحكي و القص السرد و ما تتداوله الألسن في سياق الأحاديث الشفهية إلى قول مكتوب في تاريخ الجنوب قوامها ستة مجلدات و غيرها من الكتب التي بلغت ( 32 ) كتاباً و ( 90) بحثاً كما هو ماثل في سيرة الباحث و يحمد له هذا الجهد الأمر الذي يجعل مؤلفاته جديرة بالنظر و التأمل فقد فاز مبكراً بأهم الجوائز العلمية إذ نال جائزة عبد الحميد شومان على مستوى العالم العربي في العلوم الإنسانية للعام 1417هـ / 1996م غايته الإضاءة عمّا تزخر به المنطقة من تراث و فلولكلور شعبي من العادات والتقاليد و الموروث التاريخي و الشعبي انطلاقاً من فرضية ترى أنه من لا ماضي له لا مستقبل له فارتسمت لديه حالة من الاستشراف المستقبلي وما يتصل بتاريخ المجتمع السعودي بمعطيات شتى و في مقدمتها القيم الاجتماعية النبيلة التي ميزت المجتمع عموماً و الجنوب على وجه الخصوص إذ استجمع فيها مقاصد سامية تخص الأرض و الإنسان ، بجامع الأخوة وما يسنده من العلاقات الإنسانية و الارتباط الأصيل في الدين و اللغة و الجغرافيا.
كما يدخل ضمن هذا المسعى توجه يرتبط بمعاينة الأبعاد المتمايزة و الثّيمات الفكرية و النفسية التي بسطها المؤرخ في معظم كتبه التي ألفها و ارتسمت في نماذج إنسانية عبر عنها في دراسات مستقلة و أشار فيها إلى بعض رواد المنطقة من المصلحين الاجتماعيين والعلماء و المثققين مثل الأستاذ / محمد أحمد أنور أحد رواد التربية و التعليم في المملكة العربية السعودية و الأستاذ عبد الوهاب أبو ملحة و غيرهم .
لقد وجد الباحث والمؤرخ غيثان بن جريس منافذ تعبيرية و فكرية، تستجيب لتطلعاته الوطنية و البحث الأكاديمي فقدم بهذه التطلعات مادة ثرية و غزيرة للباحثين و القراء و المهتمين بتارخ المملكة العربية السعودية و شبه الجزيرة قاطبة على نحو يعكس سعة اطلاع الباحث و دقة التحري و الرصد و التوثيق ربما لم تتحملها مؤسسة ثقافية ، و بهذا الإنجاز يجعلنا نأمل من الأخوة المؤرخين في الجامعات السعودية الأخرى تحقيق إنجاز مثل هذا بما يعكس تاريخ الشمال و المناطق الأخرى من الديار السعودية لتكتمل الصورة و تتحد الأجزاء وتذكر التفاصيل بما يميط لثام المخبوء من الموروث التاريخي و القضايا الجغرافية و العطاء الإنساني الذي ارتبط بالمجتمع السعودي . وفي ضوء ما تقدم فإن ما يقربنا في مساحة التداول التاريخي و الإنساني من المؤثرات الموضوعية التي فرضت سلطتها على الباحث ابن جريس خالص في الأبعاد الأتية :
فأولها : البعد الوطني ، لئن كان الانتماء ظاهرة إنسانية تعبر عن وعي الإنسان لحقيقة وجوده، فإن الهوية البشرية تأكيد لهذا الوجود، لأنها وعي للذات وبحث عن الجوهر الروحي والمادي، لتجعله أكثر صلابة و تسامياً، وهي بالتالي ثورة روحية و أخلاقية، وهي في صلبها تدعيم لحقيقة الانتماء الوطني والإنساني .
ثانيها البعد الحضاري : يأخذ مساره الموضوعي ضمن منظومة العلاقات الرابطة بين العرب والخليجيين في شبه الجزيرة العربية على وجه الخصوص ، إذ يترابط الجميع بأواصر الدين و اللغة و التاريخ و الحغرافيا .
و ثالثها : البعد الإنساني : و يعكس حقيقة الجذور الراسخة في ضمير التاريخ، وهي التي تمنحنا مشروعية الوجود الإنساني . الذي يتأسس على سمات أنموذجية مثالية في لوازم معرفية خاصة لا تجنح إلى إلغاء ( الآخر) أو تجاوز الواقع ، بل تحاول الاندماج في الجماعة بمستوى متميز يحفظ لها التفوق و الخصوصية . بوصفه مجتمعاً مسلماً مثالياً ، في محاوله لاستبطان قيم الشعوب و المجمتعات العربية و الإسلامية الأصيلة في هذه الأمة ، على هذا الأساس فإن ما يمكن تصوره في هذه العلاقة ، يمنح المكان بعداً حيوياً باعتبار الزمان الخالص في الحياة ، فتلك علامة مائزة تشف عنها قيم الجنوب بمناطقه المذكورة عسير وجازان و نجران و الباحة القنفذة ، أعزها حضوراً في الوعي الإنساني خلوصها إلى قيم التحول و التجدد و النمو و مقومات البقاء ، فتلك أيضاً قيم إضافية توصف بها ألسنة من اللهجات و العادات و التقاليد و أنواع اللباس و الزينة و ألوان الطعام و الشراب و ما له صلة بحياتهم الاقتصادية و الأحوال المناخية و الأودية الخضراء حينما تستعيد طافتها السحرية من إشراقة الغطاء النباتي و عناصر الجمال السندسي في رياضها الغناء و ما يجري فيها من الأنهار و ما يتوسدها من الأزهار و الحدائق و الجداول و ما يحلق في سمائها من أشكال الطيور و أشكال أخرى من صور الشوك و الرمال .
صفوة القول : إن الفاعلية في جوهرها تمثل قوة مائزة و طاقة يستضيء بها الوعي الإنساني في مسارات البحث عن الكينونة و الهوية و الشعور بالانتماء ، و النشاط المثمر كما يقولون هو قدرة ( الأنا ) أو( الأخر ) على توجيه قدراته و ملكاته في خدمة الناس ، انطلاقاً من تصورنا بأن قيمة الإنسان ستظل كامنة في ارتباطه الاجتماعي و منوطة بأواصره الأخلاقية .
التعليقات