مما هو معلوم أن الله تعالى رحيم بعباده ، حكيم في قضائه وتدبيره ، خلق الخلق بقدرته وشرع لهم بحكمته من الدين ما يناسبهم ، ويُسيّر أمور حياتهم في نظام إسلامي بديع تُجلب فيه المصالح وتُدفع فيه المفاسد ، وينتظم فيه المجتمع المسلم بنظام يسوده العدل والأمن والرضا.
ومن تلكم التشريعات العادلة العظيمة حق المرأة في الميراث ، فقال تعالى في سورة النساء (للرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) فالله سبحانه وتعالى قسّم المواريث بعدله وعلمه ، ولم يترك قسمتها للبشر فيجور بعضهم على بعض.
وحرمان المرأة من الميراث من أقبح العادات الجاهلية ، وفاعله آثم مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب التي توعّد الله تعالى عليها بدخول النار والخلود فيها والعذاب المهين ، فقال تعالى بعد أن بيّن الفروض المقدرة للورثة في سورة النساء (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)
قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) : ” يعني طاعة الله ، يعني المواريث التي سمى الله. انتهى
وقال أبو جعفر الطبري رحمه الله في قوله تعالى (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) : مَعْنَاهُ : هَذِهِ الْقِسْمَةُ الَّتِي قَسَمَهَا لَكُمْ رَبُّكُمْ، وَالْفَرَائِضُ الَّتِي فَرَضَهَا لِأَحْيَائِكُمْ مِنْ مَوْتَاكُمْ. انتهى
وقال الطبري رحمه الله في قوله تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ): يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثناؤُهُ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فِي الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَاهُ بِهِ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ عَلَى مَا أَمَرَاهُ بِقَسْمِهِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ مُخَالِفًا أَمْرَهُمَا إِلَى مَا نَهَيَاهُ عَنْهُ، {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} يَقُولُ: وَيَتَجَاوَزُ فُصُولَ طَاعَتِهِ الَّتِي جَعَلَهَا تَعَالَى فَاصِلَةً بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْصِيَتِهِ إِلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ مِنْ قِسْمَةِ تَرِكَاتِ مَوْتَاهُمْ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُدُودِهِ. {يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} يَقُولُ: بَاقِيًا فِيهَا أَبَدًا لَا يَمُوتُ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا {وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} يَعْنِي: وَلَهُ عَذَابٌ مُذِلٌّ مَنْ عُذِّبَ بِهِ مُخْزٍ لَهُ. انتهى
على هذا فيجب أن يُعلم عِظم الإثم المترتب على حرمان المرأة المسلمة من ميراثها ، ومحاولة الالتفاف عليه بالحِيل ، كإجبارها على التنازل ، أو الإلحاح عليها بذلك ، أو مضايقتها وتعييرها بالعيب إذا هي لم تفعل ذلك ، أو الضغط عليها حتى تتنازل مجاملة لإخوانها.
و الميراث حق للمرأة لا يجوز أبدا أن تتنازل عنه إلا إذا كانت بالغة ، راشدة ، طائعة ، مختارة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) كما أنه لا يجور للمرأة التنازل عن حقها من الميراث بدعوى المجاملة أو العيب و مخافة اللوم عليها واعتبارها خارجة عن التقاليد الاجتماعية الجاهلية المعمول بها في بعض المجتمعات.
أقولها وللأسف الشديد أن هناك مآسٍ في هذه القضية ، وكثير ممن يقرأ كلامي ربما قد مر عليه قصة لنساء حُرموا أو بُخسوا من ميراثهن ، سواء عن طريق الالتفاف على حقهن بصلح جائرٍ ترضى به مرغمةً خائفةً من العيب ، أو مجاملةً لأقاربها ، أو بإسكاتها بما هو أقل من حقها.
وأقولها أيضا وللأسف الشديد أن هناك من النساء من نشأت وقد ترسّخ عندها اعتقاد جاهل بفضيحة المرأة الي تطالب بحقها من الميراث ، حتى أصبحت تعيب على من تطالب بحقها من النساء وتتهمها بنقص مروءتها، وهؤلاء النسوة آثمات ظالمات محادّات لله تعالى و متعاونات على الإثم والعدوان وهنّ داخلات في نصوص الوعيد في هذا الباب.
لذلك نقول فليتق الله تعالى أولياء النساء ، وليعطوهن حقهن الذي فرضه الله لهن في الميراث ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، وليعلموا أنما هي أيام قلائل في هذه الدنيا الفانية ثم ينقلبون إلى من (لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) ، ومن (يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه : أخوكم محمد ابن الشيبة الشهري
@ebnasheba
التعليقات