الأربعاء ٢ أبريل ٢٠٢٥ الموافق ٤ شوال ١٤٤٦ هـ

آثار المدنية والتمدن على الأرض والناس في جنوب البلاد السعودية ( تهامة وسراة ) – بقلم أ.د غيثان بن علي بن جريس

آثار المدنية والتمدن على الأرض والناس في جنوب البلاد السعودية ( تهامة وسراة ) – بقلم أ.د غيثان بن علي بن جريس

لم تكن السروات وتهامة خالية من المدنية والتمدن في القرن (13هـ/18ـ 19م)، وبدايات القرن الرابع عشر الهجري. فالعديد من المصادر والمراجع ذكرت بعض المدن والحواضر وما اشتملت عليه من حياة سياسية وإدارية ومالية واقتصادية، وكيف كان هناك أفراد وفئات مجتمعية تعيش حياة طيبة في منازلها، وألبستها، وأطعمتها وأشربتها، ومكانتها الاجتماعية في أوطانها. وفي المقابل وجد طبقة واسعة من الناس تمارس حياة الأرياف والبوادي مع صعوبة الحياة وضيق ذات اليد، وتلك الظروف انعكست سلباً على حياة البشر.  

كانت حياة التمدن في النصف الأول من القرن (14هـ/19ــ 20م) موجودة إلى حد ما عند العديد من الأفراد والأسر في المدن والقرى الكبيرة، مثل: الطائف، والقنفذة، وبيشة، والنماص، ومحايل، وأبها، وخميس مشيط، وصبيا، وأبو عريش، وبلدة نجران الرئيسية. ومن يدرس أحوال البلاد في ذلك التاريخ يجد أن حياة المدنية والتمدن مرتبطة بالمراكز الإدارية والاجتماعية الكبيرة، والأمكنة التي وجد فيها مؤسسات أو قوى سياسية وإدارية أفضل من غيرها.

فمدينة أبها على سبيل المثال كانت أرقى وأفضل من أي ناحية أو قرية في المنطقة، لأنها كانت المقر الرئيسي للمتصرفية العثمانية. كذلك بعض قرى ومواطن شيوخ القبائل وأعيانها في عموم السراة وتهامة أحسن في مستواه الحضاري والاقتصادي من أي قرية أو بادية أو ريف في أنحاء البلاد. والسكان الذين يمارسون مهن الزراعة، وبعض الصناعات والحرف، وشيئاً من التجارات تكون أوضاعهم الحضارية أجود من حياة البوادي أو سكان الأرياف.   

​قد تقاس المدنية بالقوة والغلبة السياسية والعسكرية فقط، دون الاهتمام بأحوال الرعية اجتماعيًّا، وأمنيًّا، وإداريًّا، وثقافيًّا وتعليميًّا وتنويريًّا، واقتصاديًّا وغيرها. وهذا منهج غير صحيح ولا دقيق، لأن الهيمنة السياسية والعسكرية الخالية من العدالة وخدمة الناس والبلاد المحكومة بمشاريع إيجابية مادية ومعنوية تعود إلى توفير الأمن والاستقرار والحياة الكريمة، فكل ذلك لا يولد إلا تخلفاً واستبداداً وعدم استقرار حضاري.

واطلعت على الكثير من الوثائق والكتب التي شرحت جزئيات من حياة التهاميين والسرويين خلال النصف الثاني من القرن (13هـ/ 19م)، والعقود الأربعة الأولى من القرن (14هـ/ 19ـ 20م)، فكانت البلاد لا تخلو من مسؤولين وأعيان وأصحاب قرار يجتهدون ويحملون نيات حسنة في تطوير بلادهم، وفي الوقت نفسه هناك شرائح كثيرة من علية القوم وأوسطهم لا يتورعون في نشر الفوضى وعدم الأمن والاستقرار من أجل خدمة أنفسهم، أو تحقيق أهداف أو مكاسب ذاتية أو اقتصاديات أو سياسات داخلية أو خارجية.  

 قيام الدولة السعودية الحديثة ثم توسعها حتى تكونت وعرفت باسم (المملكة العربية السعودية)، كان ذلك منة وفضل من الله ـ عز وجل ـ على هذه البلدان العربية السعودية الكثيرة والمتباينة في مساحاتها وتركيبتها الجغرافية والبشرية، وقد كانت تعيش حياة فقر وجوع وفوضى قبلية وسياسية كبيرة.

وأوطان تهامة والسراة (من مكة المكرمة والطائف إلى جازان ونجران) جزء صغير من هذا الوطن الكبير(الدولة السعودية الثالثة)، وحديثنا عن المدنية في هذه الديار الجنوبية يستغرق مئات الصفحات وفي كل الجوانب والاتجاهات، وليس مكانه في هذه الورقات المختصرات، لكنني سوف أشير إلى شيء من ذلك مع رصد بعض الآثار التي نجمت عن التمدن والمدنية الحديثة (1340ــ 1445هـ/1921ــ 2024م). 

1- أكبر مجال للمدنية الحديثة توحيد البلاد( المملكة العربية السعودية) تحت راية التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله). والقضاء على الفوضى الشعبية أو القبلية، وأصبحت الدولة  الحديثة بجميع مؤسساتها الإدارية النظامية تسوس البلاد مدنيًّا وعسكريًّا، سياسيًّا وأمنيًّا، واجتماعيًّا، واقتصاديًّا، ودعويًّا، وتعليميًّا، ومعرفيًّا، وثقافيًّا وحضاريًّا.   

2- ركزت الحكومة السعودية الحديثة على عدة عوامل أساسية. توحيد البلاد، وتوفير الأمن لكل الناس، ونشر العدل والوعي على منهج القرآن الكريم والسنة النبوية ، والاجتهاد في اتباع تعاليم هذه المصادر الإسلامية الرئيسية. ثم العمل على بناء الأرض وتطويرها في شتى المجالات، ولا يتم ذلك إلا برعاية الإنسان، وتوجيهه ومساعدته إلى تطوير نفسه ماديًّا ومعنويًّا وحضاريًّا. ونجحت خطط الدولة في تحقيق ذلك، وتحولت حياة الأرض والناس إلى ازدهار وتقدم في جميع الميادين الرسمية والأهلية، العامة والخاصة، الفردية والمجتمعية.   

3- إدراك واستشعار الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل (يرحمه الله) سياسة عصره الذي يجب الأخذ بالحداثة والتطوير في نظام الحكم والاستفادة من كل جديد في تطوير البلاد والنهوض بها. والعمل على تحجيم هيمنة القبيلة وسيطرتها على أرضها وسكانها بطرق تقليدية. وكان عليه أن يجلب العلماء والخبراء وأصحاب القلم والأدب والرأي الذين يساعدونه في رسم خطط حديثة أثناء توحيد وبناء وتطوير الوطن. ولم يجهل التركيبة الحضارية لدولته التي بدأت من الرياض، وامتدت إلى مناطق عديدة في كل اتجاه، ورأى أن حواضر الحجاز وبخاصة مكة المكرمة تكون الحاضرة الإدارية التي تشرف وترسم وتخطط لنشر النظام الحضاري الحديث في أرجاء البلاد.

ومن هناك بدأ تأسيس الإدارات والمديريات السيادية والرئيسية لمعظم مؤسسات الدولة، وبعد نشأتها وقيامها بالبناء لكل مؤسسة أو إدارة رئيسية وفروعها، واستمرارها في مكة سنوات عديدة، ثم نقلها إلى مدينة الرياض في سبعينيات القرن الهجري الماضي، وتحولت مسمياتها من مصطلح (مديرية) إلى اسم (وزارة) لكل قطاع رئيسي في الدولة.

وإذا توقفنا مع نشأة وتطوير المؤسسات الإدارية المدنية والعسكرية في عموم السروات وتهامة، فإننا نجد مديريات الحكومة الرئيسية في مكة المكرمة بذلت جهوداً كبيرة في تأسيس فروع لها في مناطق عسير، وجازان، والقنفذة، والطائف، وبيشة، ونجران، ثم توسعت تلك الفروع ولم نصل إلى نهاية القرن الماضي إلا أصبح بعضها إدارات رئيسية أو عمومية تراجع الوزارات التابعة لها في عاصمة المملكة العربية السعودية (الرياض) .

4 – بدأت حياة الناس في السراة وتهامة تتحول نحو المدنية والاستقرار من خمسينيات القرن الماضي، لكنها كانت بطيئة حتى سبعينيات وثمانينيات القرن نفسه. فالدولة بجميع مؤسساتها كانت تعمل بجد واجتهاد على تنظيم الأمور الإدارية والمالية، والسياسية والأمنية، والثقافية العلمية والتعليمية وغيرها. ومن أكبر العقبات التي واجهت الحكومة ضعف الموارد الاقتصادية، وفي السبعينيات بدأ النفط يشكل مصادر مادية أفضل من ذي قبل، واستمر حكام البلاد في تقوية وتطوير الاقتصاد، والعمل على تطوير الإنسان السعودي في شتى المجالات، ودعمه وتنويره على خدمة نفسه ووطنه. 

5- بدأ هذا القرن (15هـ/20م)، وأرجاء البلاد مستقرة، وتسير في خططها الخمسية على مراحل للبناء والتطوير. وسبق أن وضعت الدولة الركائز الأولية والرئيسية خلال النصف الثاني من القرن الهجري الماضي. وإذا تأملنا في وضع السكان في العصر السابق وجدنا معظمهم بدو وسكان أرياف، والمدنية ضئيلة ومحدودة جداً، وأكثرها في منطقة الحجاز، ثم تراجعت الحياة البدوية عندما بدأت الحكومة في توطين الناس في هجرهم ومضاربهم وتزويدهم بالعديد من المساعدات المادية والمعنوية أمنيًّا، وإداريًّا، وتعليميًّا وحضاريًّا، والتفتت أيضاً للمناطق والبلدان الريفية فقدمت لهم الكثير من الأعمال التنموية التي تساعدهم على تطوير بلادهم وأنفسهم..

ولم يأت هذا القرن الحالي، إلا صار في السروات وتهامة عشرات المدن الحديثة، ومئات الأرياف والقرى والبوادي التي تشتمل على الكثير من جوانب الحضارة والتمدن العصري.  والكتابة عن حياة المدنية في هذا القرن فلابد أن تأتي على جميع مجالات الحياة السياسية والأمنية، والاقتصادية والاجتماعية، والتعليمية والعلمية والثقافية والإعلامية، والعمرانية، وصلات وتواصل أفراد المجتمع التهامي والسروي مع بعضهم أو غيرهم داخل أوطانهم، أو خارجها، وفضل الله ـــ عز وجل ــ ثم فضل الدولة على خدمة وتطوير هذه البلدان السعودية وأهلها، وميادين أخرى عديدة. وكل هذه الموضوعات مشاريع بحثية كبيرة تُكتب في عشرات المؤلفات والموسوعات.

6 – لم تعد حياة الفرد، أو الأسرة، أو المجتمع في هذا القرن هي نفس الوضع الحضاري الذي عاشه الناس في القرن الهجري الماضي. فكل شيء تطور وتغير إلى عصر جديد وحديث، كالبناء والعمران، واللباس والزينة، والطعام والشراب، والثقافة والفكر والتعليم والإعلام، ونظام الإدارة والمال، ومجالات اجتماعية أخرى كثيرة في العادات والأعراف والتقاليد واللهجات والثقافات..

وتركيبة الأسر والمجتمعات في المدن والقرى والحواضر داخل أرض السراة وتهامة، وبين المجتمعات والأفراد التهاميين والسرويين الذين يعيشون داخل المملكة العربية السعودية أو خارجها، أو طبيعة الطرق ووسائل المواصلات، أو العلاقات والاتصالات الفنية والتقنية والإنسانية والاقتصادية والحضارية وغيرها مما يصعب حصره في هذه السطور المحدودة. 

كتابة آثار الحياة الحديثة والمعاصرة على الناس والبلاد في أرض تهامة والسراة مشروع بحثي كبير يوثق في بضعة كتب أو رسائل علمية جامعية. وفي الفقرات التالية أرصد شيئاً من هذه الآثار الإيجابية والسلبية من نهاية القرن الهجري الماضي إلى وقتنا الحاضر. 

أ – كان الأمن وتوحيد الصف، والسعي إلى أن يكون ولاء المواطن لدينه وبلاده (المملكة العربية السعودية) بدلاً من ولائه الضيق المحدود إلى قريته أو عشيرته أو عصبيته القبلية، وذلك يعد من أكبر النجاحات التي تحققت في مناطق السروات وتهامة، أو أي ناحية من بلدان المملكة. وتزامن مع هذا الإنجاز الكبير تعليم وتوجيه وتطوير الإنسان في جميع المجالات التنويرية والتنموية المعنوية والمادية. 

ب – لن أسهب في التحولات الإيجابية المتنوعة التي عرفها وعاشها السريون والتهاميون من سبعينيات وثمانينيات القرن (14هـ/20م) إلى الآن (1445هـ/2024م)، مثل: زيادة الفرص الوظيفية المدنية والعسكرية، الأهلية والرسمية، وتحسن ثم ارتفاع  مستوى الدخل  الفردي لكل الناس. وانعكس ذلك على التطور المادي الجيد لجميع المستويات الحكومية والشعبية، الأسرية والفردية، العامة والخاصة.

ويظهر ذلك واضحاً في التوسع العمراني بجميع أنواعه، وتطور الناس في حياة اللباس والزينة، والطعام والشراب، واللقاءات والمناسبات الاجتماعية الصغيرة والكبيرة، الأسرية والمجتمعية، والسفر والتنقلات الداخلية والخارجية، والاجتماعات والروابط الاجتماعية، والتوسعات الاقتصادية، والنمو والتطورات الكبيرة في المؤسسات الإدارية الرسمية والأهلية، وفي مجالات التربية والتعليم والثقافة والإعلام، وفي ميادين التدريب والتقنية والترفيه والسياحة، والتقاربات الدينية والإنسانية والأخوية ليس في السراة وتهامة، بل في أنحاء المملكة العربية السعودية. 

ج ــ واكب العقود الماضية المتأخرة رفاهية ويسر حال عند معظم السكان، وزاد الوعي والعلم والنور، وفاض المال والخير عند البشر، وجميع هذه الأمور إيجابيات ومبشرات، لكنه ظهر معها الكثير من السلبيات، مثل بعض السلوكيات أو العادات الفردية، أو الأسرية، أو المجتمعية غير الجيدة. وقد تكون هذه المظاهر في مجالات اللبس والزينة، أو الشراب والطعام، أو عادات جديدة ودخيلة لها صلة ببعض المجالات الاجتماعية، أو التعليمية، أو الثقافية، أو الفكرية، أو السفر والإقامة، أو الصلات بين أفراد الأسرة أو الأسر، أو القرية، أو المدينة، أو بعض الاجتماعات والمناسبات الحزينة أو الفرائحية، أو لها علاقة بالمجالات الاقتصادية المتنوعة. 

د ــ من رغب معرفة بعض التغيرات السلبية التي ظهرت في مجتمعات هذا القرن (15هـ/20ــ21م) فليطلع على تاريخ وحضارة الناس في القرون الماضية المتأخرة، ثم يقارن ذلك بما يشاهده اليوم في أي مكان من وطن المملكة العربية السعودية، أو أي ناحية فيها كالسراة وتهامة أو غيرها. ومن يجلس مع الأجيال الكبيرة التي عاصرت أحداث وتاريخ النصف الثاني من القرن الماضي، ومازالت تعيش مع أجيال هذا القرن فإنه سوف يسمع روايات وقصص ورغبات وأمنيات كثيرة بعضها سلبية وأخرى إيجابية، ولا تخلو من المقارنات بين الماضي والحاضر.

الماضي الذي كان يغلب عليه الحياة البدائية مع تآلف وتعاون وتكافل وفقدان للأمن في معظم الأوقات، وحاضر مليء بالإيجابيات والسلبيات. مثل: ضعف الروابط الأسرية والمجتمعية في كثير من مظاهر الحياة العامة والخاصة، وتعد من السلبيات الكبيرة التي تعيشها مجتمعات اليوم، ومجالات حضارية أخرى عديدة تطورت في بعض الجوانب ماديًّا وشكليًّا، لكنها تأثرت سلباً في أمور كثيرة  بعضها  معنوي  واخر مادي، أو في الإثنين معاً . 

هـ ـ موقع بلادنا (المملكة العربية السعودية) بلاد الحرمين تمثل موطن العالم الإسلامي الرئيسي، وقد بذلت الدولة أعمالاً عظيمة وكبيرة لتأسيس ونشر الحياة المدنية الحديثة. وأصبحت مقصداً لجميع المسلمين الذين يفدون إلى أرض الحرمين، ويأتي إليها الوافدون من عشرات البلدان والجنسيات البشرية للعمل وطلب الرزق.

ومن يتجول في مناطق السراة وتهامة خلال العشرين سنة الأخيرة يجد الكثير من العناصر البشرية الوافدة والعاملة في معظم القطاعات الاقتصادية، والصناعية، والطبية، والتعليمية، والفنية التقنية، وبعض المجالات الاجتماعية. وذلك من آثار التمدن والحداثة التي تعيشها البلاد. وهؤلاء الأفراد والشرائح المجتمعية لهم آثار سلبية وإيجابية على الأرض والناس.

وقد بحثت عن دراسات علمية جيدة وموثقة في هذا الميدان، لكنني لم أجد إلا تقارير وإحصائيات ومدونات متفرقة، ومثل هذا الموضوع يجب أن يخدم بحثيًّا من قبل المؤسسات التعليمية البحثية في بلادنا . وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي القرشي عليه افضل الصلاة وأتم التسليم . 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *