الناس أجناس، منهم من يستجيب للنصح منذ الوهلة الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، ومنهم من لا يستجيب لو بذلت وقتك في نصحه الدهر كله، ومنهم من لا ينتظر النصح والتوجيه فهو يسعى لبلوغ هدفه حيث تكون الحقيقة دون انتظار التوجيه من أحد، فلديه الوعي الكافي والعقل المستنير، كالجائع أو العطشان الذي يبحث عن طعامه وشرابه.
تذكرت عندما بدأت الكتابة في هذا المقال أحوال الناس على أثر تجارب شخصية من آخرين، لا سيما في تربية الأبناء، فوجدت من الآباء من يبذل جهده في تربية أبنائه فوق الطاقة يريدونهم كما يشاؤون نسخةً منهم، يستيقظون مبكرين لأداء الصلاة، ثم يذهبون لأعمالهم، أو للسعي في قضاء حاجات أهلهم وذويهم، أو يتحدثون كحديثهم، أو يحذون حذوهم في عاداتهم وتقاليدهم، لا يصدر منهم هفوة، ولا يشتكي منهم أحد، بارين بهم، طائعين لربهم، يسلكون الطريق القويم، والصراط المستقيم، وفي نهاية المطاف يحصد الآباء الفشل ثم لا يكون غير إرادة الله.
التربية كلمة بالقول أو سلوك مشاهد بالفعل، وما سوى ذلك ليس من التربية في شيء، وإذا صرفنا الأنظار عن العامل الوراثي الذي قد يشكل بين 25- 75% من السلوك الصادر من الأبناء في الجيل الأول، فإن العامل البيئي لا يقل أهمية، إلا أن التربية لها مقومات يتطلب توافرها للنجاح، فالعقل بطبيعته يخلو من المفاهيم، ويحتله الأسبق إليه، ويزداد أثر التربية في الصغر ويقل أثرها مع الزيادة في العمر، يقررها خبراء التربية بين الثالثة والعاشرة من العمر، فالعلم في الصغر كالنقش في الحجر يصعب إزالته ويبقى الأثر، ويزداد تأثير التربية متى تنوعت الأقوال والأساليب، وقد يُغني سلوك إيجابي مشاهد عن قول ألف كلمة ونصيحة.
عندما يسود الشقاق في المنزل بين الأبوين أو بعد الفراق ينحرف الأبناء كنتيجة طبيعية لازدواجية المعايير في التوجيه، أو لتحريض أحد الأبوين على الآخر، فينشأ الأبناء في شتات نتيجة هذا الصراع تتلقفهم شياطين الإنس وتلقي بهم في ميادين الانحراف المتعددة أخلاقياً وسلوكياً متمردة على القيم والأعراف ليمتد أثرها ليس على الشخص ذاته بل على المجتمع بأسره.
ما أود قوله، الكلمة أمانه، تأثيرها الأقوى في أولها، وضعفها في آخرها، والاكثار من ترديدها ممل، يفقدها قيمتها، ويمحو أثرها، وقد يؤول بسامعها العمل بالضد، فكل قول أو عمل زاد عن حده انقلب إلى ضده، فالترشيد مطلوب في كل قول أو عمل حتى يكون له الأثر، والتنويع في المؤثر له دور كبير في الاستجابة.
ختاماً: التربية كالتُربة على السواء، فالبوار منها لا تنبت غير الحنظل، والقيعان لا تحفظ الماء ولا تنبت الكلأ، وإن كانت البذرة فاسدة بقيت تحت التربة، وإذا لم يتم تعاهدها بسقي الماء لن تنبت، ناهيك عن ضرورة توفر العامل البيئي المساعد كالضوء ودرجة الحرارة المناسبة.
التعليقات