المِسْحَقة والطيب والخُلبة وغَثّة القبض.. مصطلحات تقادم عهدها.. اسعدُ كثيراً كثيراً وينشرح صدري وقد تدمع عيني حنينا وضيماً، على رؤية تلك الهامات من الأمهات ذوات القُنعة “المقلمة” وهي شيلتين تسمى بالمرَادفة، والمنديل الأصفر..
ويفوح منها شذى وعبق الريحان والبرك والكادي والطيب،، في هذه الأيام لم يعد من جيل امي الا النزر اليسير.. جيل ( القُنعة والحبكة والفوطة والقبا والغراز وحناء القبضة والكرته ولابسات الفضة والظفار ..
وعلى طاري الظفار .. يقول المقوّل أو القائل :
شاقني ذا تنظم من ظفار ونظمت لول .. لو طلب عازة لاييبها من ينبع الماء ..
” لاييبها”.. اجيبها او احضرها واجلبها
حتى شعر الغزل لديهم محتشم كما هي اخلاقهم المحتشمة..
ذلك الجيل عاشوا زمن الجوع ثم زمن التحول والطفرة ثم هذا الزمان زمن الجوال الذكي الذي نتعامل به باللمس وببصمة الوجه والصوت .. كيف لصاحبة ( الحبكة وحنا القبضة والكرته ) أن تتفهم وضعي عندما اطرح اوامري على ( الريموت او على جوالي وتأتي الإجابة بتحقيق ما اريد، وغدا من يُعمر منهم سيرى روبرتات تتكلم بلغتنا وتلبس لبسنا فاللهم احفظ عليهم عقولهم ،!!!!! زمن العجائب بالنسبة لأمي هو لي زمن الرفاهية.
لكن دعوني اعود بكم للوراء .. ذات يوم اجتمعن نساء القرية ليس ليقطعن ايديهن كصويحبات يوسف ولكن ليقطعن الوقت وليصلن بعضهن البعض ويتفقن على التعاون لانجاز اعمالهن الجماعية ، كان من عاداتهن أنه قُبيل انتهاء المجلس تأخذ امي أو صاحبة المنزل وامام اعينهم قليلا من ( المحلب والعويدي ) وتضعه على المسحقة ( حجر املس يشبه مفردة السمبوسة اليوم ( بلاطة زمان )
ثم تسحق امي هذين المكونين، وترشهما بقليل من الماء وقد جلبت من مركنها الصغير عند مدخل البيت بعضاً من عُضاتها ( الريحان والبرك والشار والعطر والشيح ) ثم تعطي النسوة مشطا فيخلعون ( مصاونهن ) اي شيالهن او حجابهن ،، ويمشطن شعورهن ثم يظفرنه وتناولهن امي باقات صغيرة من “الغراز ” وتاخذ من هذا المسحوق فتضع لهن على مفارقهن بعضا منه ،، فتمتزج رائحة “العويدي ” القرنفل والمحلب والريحان والبرك فلا تسل عن عبق الروائح الجامحة بالطيب والعطر والإنتعاش ،،
ثم يخرجن من بيتنا وهن عدد ليس بالقليل .. وكانهن عائدات من احتفالية قروية، في موكب مهيب من جمال الصورة والرائحة وحسن الحديث،، ولعلهن يتواعدن أن يلتقين في اليوم التالي ليساعدن أم محمد في ” صرام الحنطة،، أو يتواعدن للذهاب للصُدر ويجلبن ” الخلا ” او يذهبن للجبال ويجلبن الحطب، أو يذهبن للبئر ويجلبن الماء وربما يذهبن للجبل ليجلبن ” الخُلبة” حتى يخلبن البيوت استعدادا للعيد..
أما “ُالخُلبة” فهي تربة تُجلب من الجبال الحمراء او من اماكن معروفة لديهم عادة وهي تراب ابيض يخلط بالماء ثم يوخذ بمكنسة يدوية من خصف و يخلب به الجدار ،،”يُخلب ” أي يدهن اويُضرب به الجدار، فيصبح لونه ابيض ثم يؤخذ قبضة من القبض او القضب ( ما يُعرف بالبرسيم ) وهو لايزال “ريعة” اي صغير الحجم لم يُثمر بعد ويخط به في الغرفة خطا من ثلث الجدار الأسفل ،، خطا ارتجاليا لا مسطرة ولا حبل ولا مواساة لذلك السطر او الخط كنوع من النقش ويسمى ( القط العسيري )،، كانت مهارات فردية لكل ربة بيت ،،
ثم تصعد بهذه ” الغثة” اي قبضة البرسيم هذه ، وترسم بها كيفما تشاء من مربعات او مثلثات،، وقبل ذلك يجب ان تنظف السقف الذي انهكه الدخان المنبعث من “الصلل ” والصلل هو فرن الأولين ،، فيه يجمع الحطب و يعُد فيه الطعام ويستخدم للتدفئة وماشابه،،
نعود للريحان والبرك و مايسمى بالنباتات العطرية، فلو احصينا النباتات العطرية في منطقتنا لوجدناها كثيرة متعدده، بداءً من الريحان والبرك والشيح والشار والورد بانواعه، وكثير من الشجيرات المنتشرة في الأودية وفي الجبال مثل الشيعَة والبييضاء والضرم واخرى اجهلها قد تعرفونها أفضل مني، هذه النباتات اذكرها هنا لألفت الانتباه لها أنه من الممكن أن تستثمر في الاستفادة منها في التصنيع
إما للعلاج او للبهار او كمواد للتنظيف اسوة بشجرة السدر و الحناء و الكادي في تهامة، في عصر العلم و توفر محرك البحث على شبكة الانترنت ، قد نستفيد من تجارب الآخرين في استزراع مقومات الطبيعة لدينا ليكون لنا بصمة وانتاجية على غرار تلك التي نجلبها من الآخرين ، فنحن نشتري تلك المواد مواد التنظيف و العلاجات المزودة ببعض الروائح الرائجة مثلا ، صابون برائحة اللافندر ( الضُرم) او برائحة التفاح ، او برائحة الليمون، وافكار شتى اطرح بعضها هنا بقليل من حكايات الماضي حيث استغلوها اسلافنا بحسب استطاعتهم اما اليوم فالريحان يقطف ويزين به المكان يوم او يومين ثم يُرمى علمًا أنه يُصّدر لنا كبهارات او بودرة علاج ،، او ماشابه..
ارضنا الطيبة غنية بطبيعتها وبما فيها من موارد شتى ، فكيف لنا استغلال واستثمار وتصنيع تلك الموارد الطبيعية وليس لدينا قسم في كلياتنا المحلية يعتني بمثل هذا الإنتاج ، اتمنى من وزارة التعليم إعادة النظر بعمق في توزيع اقسام الجامعات بحيث تكون هذه الأقسام تتوائم مع موارد وطبيعة كل منطقة ، وابسط مانحتاجه كليات زراعية وجيولوجية تعني بمثل ماذكرت،
خاطرة احببت تدوينها هنا علّها تصل لمن يستطيع التغيير و يبادر في إدارة دفة المركب بما يتوائم ورياح الفرص التي هبت علينا في مبادرة تنمية منطقة عسير،
ودمتم بخير .
التعليقات
تعليق واحد على "المِسْحَقة و الطيب والخُلبة وغَثّة القبض – بقلم الكاتبة أ. قبلة العمري"
رااااائع جدا
مقال عاد بنا للوراء سافر بنا إلى الماضي الجميل
كان بين طياته مفردات ومصطلحات جميله كنت أظنها ستندثر
لله درك أستاذتي!!
ننتظر بشغف جديدك فلاتحرمينا