علينا أن ندرك أن الديون جزء من كفاءة النظام الاقتصادي، ولا تمثل مشكلة عندما يقابل ذلك إنتاج حقيقي مثل زيادة معروض السلع والخدمات، وفي الوقت نفسه زيادة الطلب في الجانب الآخر، أي أنه تقابل بين العرض والطلب الحقيقي ويحفز كل منهما الآخر على النمو بطريقة متناوبة ـ إن صح التعبير – وسيقوم الدين بالتلاشي تدريجيا وينخفض ذاتيا مع السداد وإعادة الاقتراض ما لم تكن هناك خدمة دين مفرطة تتفوق على معدل الناتج المحلي الإجمالي، وفي الأغلب أن الدول تفشل في هذه المرحلة عندما لا تستطيع دفع تكلفة خدمة الدين بسبب ارتفاع سعر الفائدة، أو تراجع النمو الاقتصادي، أو حتى وجود فساد أو عملية غير اقتصادية تمنع الدين من أداء وظيفته الاقتصادية، أو يتجه الدين إلى استثمارات غير منتجة، ويمكن وصف هذه الحالات بفشل دعم القرار الاستثماري أو تعارض السياسات الاقتصادية، أو عندما يطلق التنفيذيون مبادرات تتعارض مع السياسات الاقتصادية دون قصد وتأخذ الموافقة التنظيمية، لكنها في المقابل لم تنل التأييد الاقتصادي الكافي من صناع السياسات الاقتصادية الكلية.
جميع ما سبق يمكن فهمه بأنه قواعد وأسس مباشرة لكن عندما يتغير مسار الديون من الإنفاق على البنية التحتية أو تتوجه أرباح الشركات إلى قطاعات أخرى على حين غرة من صناع السياسات الاقتصادية، فقد يشجع تضخم الديون إلى فائض ونراه بصورة واضحة في ارتفاع أسعار المضاربات في العقارات وأسواق الأسهم أو أي أصول أخرى، وهذا ناتج من تأثير الثروة، وفي هذه المرحلة يأتي دور الاقتصاديين في تفتيت تلك الثروات وإعادتها إلى الإنتاج مرة أخرى، أو تقييد بعض القطاعات بالتنظيمات أو الضرائب التي تطرد تلك الأموال الضارة بعيدا عنها، أي عن القطاعات المستهدف بالمضاربة، وفي نهاية المطاف تضرب النمو الاقتصادي بطريقة مفاجئة، أو تؤدي إلى حدوث هبوط تدريجي لكن طويل الأمد، ما يطرد الاستثمارات طويلة الأجل التي تفضلها الحكومات والبنوك المركزية لما لها من أثر مستدام في النمو الاقتصادي.
أما الأثر المشهور للديون المفرطة، فإنه يؤدي إلى مستويات مرتفعة التضخم، ثم إلى حالة عدم يقين تمنع الأعمال التجارية والاستثمارات من التوسع، وبالتالي تصبح القطاعات الاقتصادية محفوفة بالمخاطر ويحدث ما تهرب منه الحكومات، أي البطالة وارتفاع ديون الأسر وما يحدث من اختلالات تؤثر في إنفاق المستهلكين في الطبقة المتوسطة التي تحمي الاقتصاد.
غالبا عندما يتم الإفراط في الديون ويظهر التضخم وتنخفض القوة الشرائية، يقوم الأثرياء بشراء العملات الأجنبية أو أصول خارجية، وهذه المرحلة من أسوأ المراحل، لأنها تؤدي إلى هروب الأموال. وعلى الرغم من جميع الصورة التي ذكرتها اليوم، إلا أن الديون مفيدة للاقتصاد ـ إذا ما أدى الدين إلى نشوء طلب وعرض مقابل بطريقة تلقائية سواء على مستوى الدين العام أو دين الأسر أو ديون الشركات..
من المهم أن نؤكد أن الديون لا تمثل عبئا إذا ما كانت تؤدي دورها الوظيفي والاقتصادي الحقيقيين، وبما أن الدول متفاوتة في شكل نماذجها الاقتصادية ونضوج هياكلها الاقتصادية يمكننا الاعتماد على هذه المعلومة المرجعة، أن الدين يتحول إلى مشكلة عندما يرتفع بشكل أسرع من قدرة الاقتصاد الفعلية على خدمة الدين، لأن خدمة الدين يجب أن تتولد من الاقتصاد الحقيقي وليس تدوير الديون، لأن هذا الأسلوب، أي الاقتراض لمعالجة الديون يؤدي إلى انتشار العسر المالي على مستوى الحكومات والشركات، بالتالي البنك المركزي سيطبق سياساته المتشددة التي تحمي الاقتصاد من الانهيار، والأمر المؤسف أن كثيرا من الدول لا يوجد لها خط رجعة قريب إذا ما وصلت إلى مرحلة انفلات الديون، وهناك تقع الدول في كماشة الإصلاحات الاقتصادية القسرية من مؤسسات الديون الدولية التابعة للأمم المتحدة، وعلى الرغم من أهمية تلك الإصلاحات إلا أن توقيتها سيكون قاسيا على الشركات وقطاع الأسرة في أي بلد، ولا سيما أن تلك الدول لا يوجد لديها إدارة اقتصادية كفؤة وما يتبعها من هشاشة في الميزانيات العمومية والدخول في تخصيص التكاليف من أجل حماية الاقتصاد من الانهيار أو البقاء طويلا في ديون تعطل النمو الاقتصادي.
هناك أنواع أخرى من آثار الديون لكن هذه المرة في نماذج اقتصادية أكثر صلابة من النموذج السابق، تؤدي الديون إلى دفع الثروة إلى الأعلى رقميا دون أن تقابلها زيادة في القدرة الإنتاجية الحقيقية للاقتصاد، ويحدث شعور زائف بالثروة بسبب ارتفاع الأسعار للعقارات والأسهم وتنكشف عندما يتم تقييم الأسهم أو العقارات من مستثمرين قادمين من خارج المنظومة الاقتصادية، وتؤدي إلى تحديات نادرا ما يناقشها الاقتصاديون، ومن أمثلة تلك المخاطر تباعد واسع للقيمة الأساسية للأصول عن قيمتها الحقيقية، لأنها توجد لبس النشاط الاقتصادي وحساب الناتج المحلي، وهنا تتشوه علاقة النشاط الاقتصادي والنمو الاقتصادي لوجود قيمة وهمية ناتجة من الارتفاع لقيمة الأسهم، التي ترفع القيمة الإجمالية للناتج المحلي على سبيل المثال دون حدوث نشاط اقتصادي حقيقي، ولهذا تتحوط بعض المصارف من هذا الخطر بخصم كبير في قيمة الأصول المرتبطة بالديون، وهي ديون تربك الناتج المحلي أي نمو مصطنع بدليل ضعف توليد الوظائف الجديدة وتدني الأرباح.
مخاطر الديون لا حصر لها لكن للخروج منها يمكن الاعتماد على مراقبة أثر الدين الحكومي في الأنشطة الاقتصادية وليس GDP من حيث النمو والأرباح وتوليد النقد الأجنبي لبعض القطاعات، ومراقبة أيضا الإنفاق الرأسمالي للشركات والعائد ومتابعة الاستثمارات الرأسمالية غير المنتجة ومحاربتها اقتصاديا، وتفسير أي تحويلات مالية عالية عندما يكون الأداء الاقتصادي دون المستوى الأمثل ومحاربة الثروات الوهمية اقتصاديا، والناتجة من المضاربة الشرسة في الأصول، وفي الختام أظن أننا بحاجة إلى التأكيد مرة تلو المرة على أهمية الديون للاقتصاد لكن بشرط أن تستخدم للاقتصاد الحقيقي والإنتاج.
التعليقات