قال قيس ابن الملوح : ذكرتك والحجيج لهم ضجيج .. بمكة والقلوب لها وجيب — والضجيج يتجلى معناه بمعرفة ضده، وقد قيل: وبِضِدِّها تَتَبَيَّنُ الأشْياءُ. وقيل في مناسبة أخرى : ضِدانِ لما استُجْمِعا حَسُنا، والضِّدُّ يُظهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ ومن أضداد الضجيج السكون، والهدوء، وأوضحها الصمت. لذلك ندرك أن معنى الضجيج هو ما يخالف السكون والهدوء وبذلك يكون معناه هو: اختلاط مجموعة أصوات في وقت واحد وبأصوات مرتفعة ينتج عنها تلوث سمعي وضوضاء عالية يصعب معها التركيز. هذا الأمر معروف ومعلوم ربما لدى الجميع، لكن ما تقل المعرفة حوله، هو أنه في أحيان كثيرة قد يصبح الصمت – الذي هو أوضح أضداد الضجيج – ضجيجا أشد ضخبا وأكبر ضررا من الضجيج نفسه.
ذكر أحد الفضلاء قصة مفادها أن معلما حضر إلى الجامعة التي كان يدرس بها وذلك لتعليم اللغة الفرنسية بها، ذكر لهم ذات مرة قصة. قال: درّست اللغة الفرنسية بإحدى الجامعات في إحدى الدول لعدة أعوام، قبل القدوم إلى هنا، وقبل المغادرة طلب مني البعض إلقاء محاضرة وداعية، فقبلت الطلب واجتمع الناس، وتكلمت كثيرا وانجرفت كثيرا في الحديث فتطرقت لأشياء ما كان لي أن أتطرق إليها لا سيما في وداعيه كتلك فبالغت في الحديث وانتقدت الوضع والسلوك الاجتماعي في ذلك البلد، خيل إلي أنني لم أترك شيئا الا ذكرته عن هذه الدولة وشعبها، وفي لحظة تنبهت لكلامي فشعرت أنني ربما بالغت فيما تحدثت فيه وكان الوقت والمكان غير مناسبين لقول ذلك، وعندها اعتقدت أنني ربما لن أخرج من القاعه سالما.
لكن المفاجأة أن الصمت كان سيد الموقف فلم ينبس أي شخص من الحاضرين ببنت شفة، يقول: وفي نهاية المحاضرة ولمحاولة تلطيف الجو قليلا طلبت إذا كان هناك من يريد التعليق أوالمناقشة حول ما سمعوه، فلم يكن هناك أي تجاوب، وظللت أحدق في الوجوه وأقلب بصري يميناً ويساراً لعلي أجد من يكسر ذلك الصمت الرهيب، وكررت الأمر حتى بدا الأمر وكأنني استشفعهم لعل أحدهم يصرخ في وجههي أو يوجه لي بعض الشتائم أو يطردوني من القاعة، لكن لم يحصل شيء من ذلك وكان الصمت سيد الموقف. يقول: فلملمت أوراقي وخرجت وخيبة الأمل تعصف بأفكاري.
قال: فما آلمني شيء أكثر من صمت أولئك الناس، حتى أنني بعد مرور العديد من السنوات لا أستطيع الخروج من ألم تلك اللحظة، فقد لقنوني درسا مرعبا في فن التوبيخ والسخرية والثأر مني. من هنا يتبين لنا قوة الصمت ومدى تأثيره وخطورته وانه يمكن أن يكون أبلغ أثراً وأشد آلماً من الصراخ والخصام اذا ما استخدم في المكان والوقت الصحيحين. لكن ما يدعو للشفقة على حالنا في هذا الزمن أن كل صمتنا أصبح ضجيجا، فلا تكاد تظفر ببرهة يسيرة للراحة الا وتضرب موجة من رسائل الضجيج الصامت الذي لا يكاد يسلم منه أحد ليلا ولا نهارا كبيرا ولا صغيرا، لقد تحولت رسائل الوتس أب وتغريدات تويتر وتعليقات الفيس بوك وغيرها، ضجيجا مؤلما ومقلقا لراحتنا سواء عن طيب خاطر منا أو غصبا عنا.
لقد أصبحت الأفواه مكممة وتحول الضجيج البشري إلى الآلة، فهي التي تتحدث إلينا وتنقل منا و لنا كل شيء، الغث والسمين، الطالح الصالح، الكذب والصحيح، ولا يكلف ذلك أحدنا فتح شفتيه. فقط حدد المطلوب واعمل نسخ ولصق وارسل، أو اعمل ريتويت لتغريدة، أو تعليق في تطبيقات مشابهة، لم يعد الأمر مقتصرا على الضجيج الشخصي، بل أصبحنا نتشارك ضجيج الآخرين، وما يهدأ بال لأحدنا عند قراءة مشاركة أو سماع مقطع إلا ويسارع في نشرها ومشاركة ضجيجها الآخرين، وربما يكون المتلقي شاهدها، أو سمعها أو قرأها قبل أن يراها ذلك المجتهد عشرات المرات.
أقول: رفقا بعقولنا وهويناً على صحتنا من هذا الضجيج والصخب المستمر، فذلك الضجيج الصامت أتعب آذاننا وأجهد أعيننا، واقلق راحتنا، فهل يمكن أن يقتصر الأمر فيما يفيد وينفع وفي أوقات متباعدة حتى تهدأ النفوس وتستقر الأحوال، فلقد تحولت نعمة هذه التقنيات إلى نقمة لم يسلم منها أحد، وأصبح غثها أكثر من فائدتها، وأصبح صمت الناس الصاخب الصادر عنها باعثا لمشاعر التوتر والقلق. فهل أصبح الأمر خارج نطاق السيطرة، وهل يمكن أن تكون صيرورة هذه التقنيات جزءا من حياتنا عاملاً مساعداً لاستمرار هذا السيل من الضجيج بحيث لم نعد قادرين على الاستغناء عنها. وبذلك يصدق في حقنا المثل القائل: يا من شرى له من حلاله علة، ولذلك لزم أن نردد ” فصبر جميل والله المستعان.
شيء من الحكمة: يقال: هناك كلام لا يقول شيء، وهناك صمت يقول كل شيء.
التعليقات