الأحد ٢٠ أبريل ٢٠٢٥ الموافق ٢٢ شوال ١٤٤٦ هـ

هذا حكم زُفر – بقلم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

هذا حكم زُفر – بقلم الكاتب أ. محمد عبدالله بن شاهر

 

قال الإمام ابن قيم الجوزية، – رحمه الله – في كتابه” أعلام الموقعين” سمعت شيخ الإسلام – أحمد بن تيمية الحراني – رحمه الله – يقول: حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة، حكم فيها أحدهم ( في مسالة ) بقول *زفر*، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا حكم الله. فقلت: صار قول ” زفر” حكم الله، الذي حكم به وألزم به الأمه. قل: هذا حكم زفر. ولا تقل: هذا حكم الله.

وجاء في صحيح مسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوصي أمراء السرايا والجيوش فيقول: “.. وإذا حاصرْت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك. من هذا ومثله كثير في كتب التراث في التحذير من الاندفاع في القضاء أو الفتوى ونسب ذلك إلى الله إلا بدليل قطعي من كتاب الله.

وإن لم يتوفر هذا الشرط في التوجيه والإرشاد فلا ينسب إي شيء من ذلك إلى الله، بل ينسب إلى شخص قائله، فهذا أدعى للسلامة من القول على الله وعلى رسوله بغير علم ولا دليل. مخافة أن يطالهم عذاب الله، وعقابه. ويلحق بقضائهم وفتواهم الكثير من الضرر الذي لا يسنده دليل.
قال تعالى: “وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ” . فليحذر القضاة ومتصدري الفتوى، من الاقدام على أمر التحليل والتحريم دون ما يكون هنالك مستند من حكم الله. وحديث ” أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار ” مع عدم وروده في الصحاح إلا أنه يتوافق مع تحذير الله من عدم التساهل في الاقدام على التحليل والتحريم.

لكن مما يؤسف له في هذا الزمان أن الفتوى أصبحت بضاعة من لا بضاعة لديه، وأصبح الاقدام عليها أبسط من إرسال رسالة واتس أب. وأصبح القضاء إلا من رحم ربك وسيلة لتغليب حظوظ النفس والهوى، على حكم الله. ولخطورة كثرة السؤال وعدم تحمل نتائجه حذر الحق سبحانه وتعالى وقت التنزيل من كثرة السؤال، فلربما نزل ما يتمنى السائل أنه مات قبل أن يسأل تلك المسألة، قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ “.

فالحذر كل الحذر من الانجرار أمام إغراءات الشهرة والاستعراض، بما يتعارض مع مضامين هذه التوجيهات الربانية. وبالتالي التضييق على عباد الله فيما لم يرد فيه نص أو يقبل به عرف، وتغليب مصلحة الناس على حظوظ النفس والهوى، والدوران مع المصلحة حيث كانت، فالأصل في الأشياء الإباحة والمحرمات محددات ومعدودات ” مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ” فالاستمساك بكتاب الله حاجز عن الغواية والانحراف، دال على الهداية والاستقامة، من استمسك به رشد ومن حاد عنه غوى وانحرف، ولسوف نسأل عن التزامنا بما أمرنا به عز وجل أو نهانا عنه، قال تعالى: ” وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ”.

وهذا الكتاب الخاتم ما كان ليكون خاتما لو لم يكن يحتوي على ما فيه صلاح البشرية إلى يوم الدين، وعلاوة على ما فتح الله به من علم ومعرفة لبعض أسرار هذا الكتاب الكريم للسابقين من السلف، فسيتواصل هذا الفتح من الله على أناس آخرين إلى قيام الساعة، لا سيما ونحن في عصر العلم والمعرفة. ومن هنا ننبه إلى أن كثرة اجتهادات الفقهاء أدى إلى تضخم الموسوعة الفقهية بحيث أصبحت أقوال العلماء دينا يتعبد به، وطغى تأثير هذا الأمر على الأصل، مما جعل أغلب الاجتهادات خالية من الدليل الصحيح، بل رأي رآه الفقيه.

فما نرجوه من فقهائنا الأفاضل، إن لم يكن لديهم الدليل الصحيح، أو العلم بأطراف المسألة ألا ينسبوا شيئا من أقوالهم إلى الله تعالى، أو إلى رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام. وأن يتشاركوا مناقشة المسائل العلمية مع أهل الاختصاص من أطباء ومهندسين وفنيين، وغيرهم من أهل الصنعة والاختصاص فيما له علاقة بالاختصاص، فذلك أحرى بإصابة الحق إن شاء الله. قال تعالى” الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ”

*زفر* : زُفر بن الهذيل العنبري التميمي (110 هـ – 158 هـ / 728 – 775) أحد الفقهاء الكبار في المذهب الحنفي، صاحب أبا حنيفة رحمهم الله جميعاً.

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *