الإثنين ٢١ أبريل ٢٠٢٥ الموافق ٢٣ شوال ١٤٤٦ هـ

أسعار الأراضي والعقارات .. بين شد وجذب – بقلم الكاتب أ. عبدالحميد حسن العمري

أسعار الأراضي والعقارات .. بين شد وجذب – بقلم الكاتب أ. عبدالحميد حسن العمري

 

اشتد الجدل أخيرا بين عديد من المحللين الاقتصاديين والماليين من جهة، وعديد من المتاجرين والمضاربين العقاريين والسماسرة من جهة أخرى، حول ما إذا كانت أسعار الأراضي والعقارات قد بدأت تسجل انخفاضا أم لا؟ نشأ هذه المرة من توثيق بيانات وزارة العدل “المصدر الرسمي لنشاط السوق العقارية”، لعديد من صفقات العقار على أراض سكنية في شمال مدينة الرياض، كانت قد سجلت انخفاضا سنويا وصل إلى 42 في المائة، وهو ما شكل مفاجأة غير متوقعة للجميع، جاءت خلال ثاني أكبر وأسرع موجة ارتفاع بالأسعار السوقية للأراضي والعقارات “2019 ـ 2022″، التي سجلتها السوق العقارية المحلية طوال أكثر من ستة عقود زمنية مضت، “الموجة الأولى والأكبر من حيث الارتفاع جاءت في منتصف السبعينيات الميلادية”، وقد سبق الحديث عن أسباب الارتفاعات الراهنة في أكثر من مقال وتقرير سابق، كان من أهمها وأبرزها الارتفاع القياسي للائتمان العقاري الممنوح للأفراد والمدعوم من الحكومة، ووصل إجماليه منذ مطلع 2019 حتى منتصف العام الجاري إلى نحو 465 مليار ريال “البنك المركزي السعودي”.

الشاهد مما تقدم، أنه ليس بالجدل الجديد، كما قد يعتقد البعض، بل هو جدل قديم جدا اعتاد القريبون من السوق العقارية عليه، يسخن مرة ويهدأ مرات، وفقا لما يطرأ على تعاملات السوق العقارية المحلية من مستجدات، اعتاد الوسط الاقتصادي والعقاري طوال تلك الفترات الزمنية على النقاش والجدال حول اتجاهات الأسعار وأوضاع السوق. يمكن التأكيد أن من أهم أسباب اكتساب الجدل الاقتصادي العقاري للاهتمام خلال أكثر من عقد زمني مضى، عدا ما شهدته الأسعار من موجات صعود وهبوط طوال تلك الفترة، ولما يمثله جانب تملك المساكن من أهمية قصوى لجميع الأسر، فقد أسهم انتشار مختلف وسائل التواصل الحديثة إلى جانب وسائل الإعلام، في إثراء الحوارات والمنتديات المرتبطة بهذا الشأن التنموي، وجاء كل ذلك طوال الفترة الماضية التي شهدت خلالها السوق العقارية المحلية، كثيرا من التنظيمات والتطورات والتقلبات “صعودا وهبوطا”، تركت وراءها كثيرا من الآثار في أداء السوق العقارية عموما، وفي مستويات الأسعار السوقية لمختلف الأصول العقارية السكنية والتجارية خصوصا، وكان من الطبيعي في ظل انتشار وتوسع وتنوع وسائل الاتصال والإعلام، أن تقترن بتلك المراحل المكتظة بكثير من التطورات التنظيمية والتطورات، مستويات أوسع من الحوارات والاختلافات بين الفريقين “الاقتصاديين، العقاريين”، وما زال قائما وسيبقى كذلك، شأنه شأن الطروحات الأخرى المصاحبة للتطورات الجارية في بقية الأسواق والنشاطات المحلية عموما، وفي الأسواق العقارية على مستوى العالم، وذلك لما يشكله القطاع العقاري من ثقل اقتصادي في جميع الاقتصادات، ولما يمثله من أهمية كبيرة للأسر والمجتمع كطرف استهلاكي، وللشركات والمنشآت كطرف استثماري، ودون إغفال الشركات والمنشآت التي يندرج العقار في قوائمها المالية كعنصر تكلفة “تملكا، إيجارا”.

ينطلق الجانب الاقتصادي والمالي في تحليله لأداء السوق العقارية ومستويات الأسعار، من رؤية تشمل جميع قطاعات الاقتصاد الوطني وتحليل العلاقات فيما بينها، والآثار المترتبة لأي تطورات في أي قطاع أو سوق على بقية نشاطات الاقتصاد، ويمتد التحليل الاقتصادي حتى إلى دراسة الآثار الناتجة عن أي من تلك المتغيرات في المجتمع أفرادا وأسرا، وبموجب ذلك يرى الفريق الممثل لهذا الجانب أن أسعار الأراضي والعقارات سجلت قفزات سعرية قياسية طوال الفترة 2019 ـ 2022، وأصبحت تتجاوز كثيرا القدرة الشرائية حتى الائتمانية لأغلبية الأفراد، وهو ما أكده وزير الشؤون البلدية والقروية والإسكان في أحد لقاءاته الإعلامية قبل عدة أشهر قليلة. ويكمل هذا الفريق وجهة نظره بالقول، إنه قياسا على وصول الأسعار إلى تلك المستويات المرتفعة جدا، وبالنظر إلى الارتفاع المطرد في معدل الفائدة على القروض البنكية عموما “ومنها العقارية”، والمتوقع ألا يقف عند مستوياته الراهنة، بل سيواصل ارتفاعه حتى نهاية العام المقبل، حسبما أعلنته البنوك المركزية حول العالم، لمواجهة الارتفاع القياسي في معدلات التضخم، إضافة إلى التراجع اللافت الذي سجلته القروض العقارية للأفراد 18.0 في المائة خلال النصف الأول من العام الجاري، وتزامن معه للفترة نفسها تراجع حجم مبيعات القطاع السكني 22.8 في المائة، كل تلك العوامل الرئيسة وغيرها لا بد أن تنعكس على الأسعار المتضخمة في السوق العقارية بمزيد من الكبح، وأنها ستؤدي في منظور الأشهر المقبلة إلى تصحيحها واستقرارها عند مستويات أكثر عدالة، وأكثر اقترابا من القدرة الشرائية والائتمانية لدى الأفراد، وهو بالفعل ما أظهرته أحدث بيانات للسوق العقارية الصادرة من وزارة العدل، بتباطؤ النمو السنوي للمتوسط العام لأسعار الأراضي والعقارات السكنية من 20.6 في المائة “كانون الثاني (يناير) 2022” إلى 12.3 في المائة حتى نهاية الأسبوع الماضي، وأن التباطؤ الراهن سرعان ما سيتحول إلى انخفاضات متدرجة خلال الفترة المقبلة، مع استمرار ارتفاع معدل الفائدة وتراجع كل من الإقراض العقاري ومبيعات القطاع السكني، إضافة إلى التوسع في استكمال الإصلاحات الهيكلية للسوق عبر تنفيذ بقية مراحل نظام الرسوم على الأراضي البيضاء في أغلب مدن المملكة.

بينما في الجانب العقاري، يتبنى أغلب المرتبطين به وجهة نظر مخالفة لكل ما سبق، والتأكيد على وجود شريحة من العقاريين “مستثمرين، ومطورين” تبنت وجهة النظر نفسها التي طرحها فريق الاقتصاديين والماليين، وهي الشريحة التي اتسمت بخبرة زمنية أطول مقارنة بغيرها من حديثي التجربة في السوق العقارية. ويرى هذا الفريق أن تصحيح الأسعار المرتفعة في السوق غير وارد على الإطلاق، بل ستستمر في الارتفاع طوال الأعوام المقبلة، وأنه لا يوجد أي تأثير لارتفاع معدل الفائدة أو تراجع حجم القروض العقارية، ولا حتى تراجع حجم المبيعات في القطاع السكني تحديدا وفي بقية قطاعات السوق، وأن ما تشهده السوق خلال الفترة الراهنة من ركود، لا يتجاوز ـ من وجهة نظرهم ـ كونه ركودا “مؤقتا” سرعان ما ستتخطاه السوق قبل نهاية العام الجاري، وعلى الرغم من رالي الارتفاع القياسي الذي سجلته الأسعار السوقية لمختلف الأصول العقارية طوال الأعوام الأخيرة، فإنه لم يتجاوز القدرة الشرائية لجانب الطلب، ولا يعد أيضا متضخما، ومن ثم فإنه سيواصل الارتفاع إلى مستويات سعرية أعلى بكثير مما وصلت إليه حتى تاريخه. وأكمل مناقشة هذا الشد والجذب في المقال المقبل بمشيئة الله….

إن من يمعن النظر في نقاط الاختلاف بين فريقي الاقتصاديين والعقاريين، لن يجد صعوبة في التوصل إلى أهم سبب لذلك الاختلاف، الذي يكمن في الاختلاف الجذري للأرضين التي يقف عليهما كل فريق! فالفريق العقاري تنصب نظرته على نشاطه فقط، ويبحث في جميع السبل التي تدعم هذا النشاط بغض النظر عما هو خارج نشاطهم واهتمامهم، وهو أمر مفهوم بكل تأكيد.

بينما ينظر الفريق الاقتصادي إلى السوق العقارية كجزء لا يتجزأ من الاقتصاد الوطني، ويقرأ ويحلل تطوراته بالأخذ في الحسبان جميع علاقاته المتبادلة كـ “مؤثر ومتأثر” مع بقية نشاطات وقطاعات الاقتصاد الكلي، لهذا فإنه يرى ويشخص من خلال تلك النظرة الشمولية فرصا ومشكلات وتحديات، ومن ثم يقوم بوضع الحلول المتكاملة مع بقية القطاعات والنشاطات الأخرى في الاقتصاد الكلي، ويحرص في هذا الاتجاه على أن تأتي الحلول والبرامج الإصلاحية لجميع تلك القطاعات، ضمن منظومة من السياسات الكلية المتوازنة والمتكاملة بدرجة كبيرة، فتتضافر في مجملها نحو تحقيق الأهداف النهائية للتنمية والاقتصاد من خلال تحقيق الأهداف الجزئية لكل قطاع أو نشاط، لا أن تأتي حلول قطاع بعينه على حساب قطاع أو قطاعات أخرى! ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر في شأن الحديث هنا، ضرورة الأخذ في الحسبان عند تصميم برامج التمويل اللازمة للمستهلكين لأجل تمكينهم من تملك مساكنهم، أن تأتي ضمن ضوابط لا تتجاوز باستقطاعاتها الشهرية “ثلث” دخل المستفيدين، تحقيقا للاستقرار المالي، وحماية للقطاع التمويلي من مخاطر التضخم المحتمل في القيم السوقية لمختلف الأصول والسلع والخدمات بحال لم يتم ضبط الائتمان المحلي، وحمايته أيضا من مخاطر التعثر والتوقف عن السداد، الذي يعد من أكبر المخاطر على أي قطاع تمويلي في أي اقتصاد حول العالم، ولا بد من التحوط المبكر له بالاستعدادات والضوابط التنظيمية الكافية، ولسنا ببعيد عما تواجهه القطاعات التمويلية من مثل هذه المخاطر في عديد من أكبر الاقتصادات في العالم، وعلى رأسها الاقتصادان الأمريكي والصيني، اللذان يواجهان وعديد من الاقتصادات المتقدمة الأخرى مخاطر مرتفعة، توشك على التسبب في إدخال الاقتصاد العالمي ركودا اقتصاديا تضخميا، لحقبة من الزمن لا يعلم أحد أين منتهاها.

إضافة إلى اشتراط أن تحقق برامج التمويل أعلاه الاستقرار المعيشي للأسر، دعما لكل من قدرة الادخار لدى الأفراد، ولقوة الطلب الاستهلاكي المحلي، التي يتغذى عليها القطاع الخاص، وتمكنه من النمو المستدام والإسهام في نمو الاقتصاد الوطني، وزيادة قدرته على تنويع قاعدة الإنتاج المحلية، وزيادة قدرته على إيجاد عشرات أو مئات الآلاف من فرص العمل الكريمة أمام الموارد البشرية المواطنة، التي سيسهم تحققها في تحسن مستوى الدخل، وزيادة حجم الاقتصاد الوطني، الذي يتضمن زيادة مساهمة القطاع الخاص فيه، إضافة إلى تقليص معدل البطالة، وهو من أهم أولويات السياسات الاقتصادية الكلية على الإطلاق. إنها علاقات اقتصادية على قدر عال من التشابك والتعقيد، تؤثر وتتأثر فيما بينها إلى قدر لا يمكن معه الفصل فيما بينها، بل لا بد من الاعتراف بها وأخذها في الحسبان عند تصميم أي برامج وسياسات جزئية لكل قطاع أو نشاط، وأن ترتقي إلى الانسجام والتكامل مع بعضها بعضا في المستويات العليا المكونة للسياسات الكلية.

يمكن الآن فهم الجزء الأكبر من أسباب الاختلاف، ويمكن أيضا فهم جذور اختلاف الأهداف النهائية لكل من الفريقين، ولا حاجة هنا إلى استعراض نقاط الاختلاف المعلومة لدى الأغلبية، بقدر التأكيد على إعادة استقراء تلك الاختلافات من خلال هذه الرؤية التحليلية للأرض التي يقف عليها كل فريق، الذي سيسهل بدوره رؤية القرارات الأجدر باتخاذها في سبيل النهوض بجميع نشاطات وقطاعات الاقتصاد الكلي، والتأكد من أن الجميع سيكون كاسبا في الأجلين المتوسط والطويل، وأن لا أحد سيكون خاسرا في نهاية الأمر، بغض النظر عما قد يتعرض له البعض من تباطؤ أو خلافه في الأجل القصير.

الأمر الآخر الواجب الإشارة إليه، أن تركز التحفيز على أي نشاط اقتصادي بعينه خارج دائرة السياسات والبرامج المتكاملة المشار إليها أعلاه، سيخدم بكل تأكيد ذلك النشاط لفترة زمنية لن يطول مداها “القطاع العقاري الصيني كأكبر مثال”، ثم سرعان ما يتحول إلى مناطق أكثر ضعفا بعد استنفاد جميع أدوات الدعم والتحفيز، وقد تنتقل آثار ضعفه ومشكلاته إلى بقية النشاطات والقطاعات، كما هو حادث الآن في القطاع العقاري الصيني، الذي يواجه معدلات مرتفعة جدا من المديونيات والتعثر! انتقلت مخاطرها لتهدد القطاع التمويلي الصيني، وبقية القطاعات التمويلية حول العالم المرتبطة به، ووفقا لتقييمات أغلب المفكرين الاقتصاديين العالميين، فإن هذه الأزمة العقارية الصينية وتعثراتها الراهنة أمام القطاع التمويلي، تعد أكبر مصدر لخطر سقوط الاقتصاد العالمي في براثن الركود التضخمي، ويفوق في مخاطره ما قد يظنه البعض من احتمال أن يتسبب الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبقية البنوك المركزية في حدوث ذلك الركود، التي ما زالت تمتلك القدرة على اتخاذ قراراتها بالتوقف عن رفع معدل الفائدة متى ما رأت عواقب وخيمة للرفع، في حين لم يثبت حتى تاريخه قدرة السلطات النقدية الصينية على إيجاد مخرج للأزمة البالغة التعقيد في قطاعها العقاري المتعثر أمام البنوك الدائنة.

قد لا يقتنع أغلبية الفريق العقاري بأي مما تقدم ذكره أعلاه، ولا أهمية كبيرة في هذا الشأن، بقدر أنه من المهم جدا أن يولي القائم على تصميم السياسات الاقتصادية الكلية هذه الجوانب غاية العناية والاهتمام، وهو الأمر الذي أصبح متوافرا، بفضل الله، تحت مظلة رؤية المملكة 2030، وبدأ الاقتصاد الوطني يجني ثماره في مراحل مبكرة، ويتوقع أن تتنامى بمعدلات أسرع وأكبر مستقبلا.

 

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *