الإثنين ٢١ أبريل ٢٠٢٥ الموافق ٢٣ شوال ١٤٤٦ هـ

بين القاف والعين – بقلم الكاتب أ. محمد شاهر الشهري

بين القاف والعين – بقلم الكاتب أ. محمد شاهر الشهري

 

استولى التتار على منطقة ماردين، بعد أن قضوا على الخلافة العباسية في بغداد، وكان معظم سكن ماردين من المسلمين، فأصبحت بعد الغزو المغولي بلدة مسلمة يحكمها غير مسلمين.

صَعُب الحال على سكان ماردين واستشكل عليهم الوضع بعد هذا الاحتلال المغولي، واصبحوا يرغبون في كيفية التعامل مع الوضع الجديد فبعثوا برسالة إلى ابن تيمية يستفتونه عن وضع المسلمين في هذه البلدة وما يجب لهم وما يجب عليهم. وجاء تفصيل هذه الرسالة في مجموع الفتاوى ج28 ص 240 كالتالي:

سئل – رحمه الله- عن ماردين “هل هي بلد حرب أم بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا؟

فأجاب بالتالي: ” الحمد لله، دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في “ماردين” أو غيرها. وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم. والمقيم بها إن كان عاجزا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه. وإلا استحبت ولم تجب. ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم ويجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق أمكنهم من تغيب أو تعريض أو مصانعة؛ فإذا لم يمكن إلا بالهجرة تعينت.

ولا يحل سبهم عموما ورميهم بالنفاق؛ بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم. وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة: فيها المعنيان؛ ليست ” بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام؛ لكون جندها مسلمين؛ ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار؛ بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه (ويقاتل) الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه.

كان هذا هو جواب ابن تيمية على رسالة أهل ماردين من المسلمين، ويلاحظ في هذا الجواب مما لا يغيب عن نظر كل محقق، وجود تصحيف في سياق الكلام في عبارته الأخيرة، حيث ذكر أن المسلم “يعامل” فيها يما يستحقه، ثم حدث التصحيف فيما بعد ذلك حيث حرفت كلمة (ويعامل) الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه إلى “ويقاتل”. فالسياق يفرض أن يكون الكلام كالتالي: ” (يعامل) المسلم فيها بما يستحقه (ويعامل) الخارج عن شريعة الإسلام بما يسيحقه.
ويؤكد وجود هذا التصحيف:

أولاً: أن النسخة المخطوطة الوحيدة الموجودة في المكتبة الظاهرية وهي برقم (2757) في مكتبة الأسد بدمشق مدون بها “ويعامل” في كلا الأمرين.
وثانياً: نقل ابن مفلح في كتابه الآداب الشرعية والمنح المرعية، وهو تلميذ ابن تيمية وقريب العهد منه فقد نقلها على الصواب (ويعامل) في كلا الأمرين.
وثالثاً: نقلت الفتوى في الدرر السنية (9/248) على الصواب.وكذلك فعل الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار. 

وهذا يؤكد أن التصحيف ظهراً في فترة متأخرة في حدود ال 100 عام من الآن، حيث وجد هذا التصحيف أول ما وجد في طبعة الفتاوى التي أخرجها فرج الله الكردي عام 1327هـ، ثم تبعه على ذلك الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن قاسم في مجموع الفتاوى (28/241).

وللأسف فقد انتقل هذا التصحيف في كافة الطبعات باللغة الأجنبية. وأصبح مستنداً يتبناه الآخر لمهاجمة الإسلام واتهام أهله بالإرهاب .

وقد استند الإرهابيون من القاعدة وداعش وأمثالهم في كل أعمالهم على هذه الفتوى المحرفة، مما أحدث شرخاً كبيراً بين الإسلام والآخر، وأصبح العداء مستحكماً بين الطرفين، حتى أصبح كل شخص يقصر ثوبه أو يطلق لحيته من المسلمين مثار شبهه وموضع اتهام بتبني هذا الفكر الضال المنحرف.

وبهذا التصحيف بين القاف “يقتل” والعين ” يعامل” أريقت الكثير من الدماء البريئة وقتل الناس بلا أي ذنب ارتكبوه وكل ذلك والفاعل يردد الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

إلا أنه من ظهور التقنية وانتشارها بين الناس وتناقل الفتوى الصحيحة نلاحظ انحسار هذا الفكر الضال والفهم الخاطىء وانطوائه وتمركزه فيمن أصبحت حياتهم قائمة عليه والاستفادة من عوائده فقط لا غير وهم قليل، لا كثر الله أمثالهم.

لذا ندعو الجميع الرجوع إلى كتاب الله والسنة الصحيحة فيما يتعلق بالتعامل بين الناس والعمل على إفشاء مبدأ السلام وروح الإسلام، والتخلق بقيم الإسلام العالية من محبة وصدق وتواضع وكل ما يدعو إلى الألفه والتعايش السلمي بين البشر، والذي هو الأصل في التعامل بينهم.

لكم مودتي
m1shaher@gmail.com

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *