دخل رجل غريب إلى أحد مجالس الحكماء الأثرياء، وكان يحمل في يده قارورة ماء.. سلم ثم جلس حيث انتهى به المجلس، وأخذ يستمع إلى ذلك الحكيم وهو يعلم تلاميذه، وبعد ذلك التفت الحكيم الى ذلك الغريب، ثم سأله: ألك حاجة نقضيها؟ أم لك سؤال فنجيبك؟ قال له الغريب: لا هذا ولا ذاك، إنما أنا تاجر، سمعت عن علمك وخلقك ومروءتك، فجئت أبيعك هذه القارورة التي أقسمت ألا أبيعها إلا لمن يقدر قيمتها.. وأنت دون ريب حقيق وجدير بها.
قال له الحكيم: ناولنيها، فناوله أيّاها، فأخذ الحكيم يتأملها ويحرك رأسه دلالة على الإعجاب بها وبمحتواها، ثم التفت إلى الغريب وقال له: بكم تبيعها؟ فقال: أبيعها بمائة دينار، فرد عليه الحكيم وقال: إنها تستحق أكثر من ذلك، سآخذها بمائة وخمسين، قال الغريب: بل مائة لا تزيد ولا تنقص.. قال الشيخ لابنه: اذهب الى البيت وأحضر مائة دينار واعطها للتاجر.. فذهب الابن واحضر المبلغ وسلمه للتاجر، وعندها انصرف التاجر لحال سبيله.
بعدها انفض المجلس وانصرف الجميع وهم متعجبون ويتساءلون عن هذا الماء الذي اشتراه الحكيم بمائة دينار. وبعد عودة الحكيم إلى منزله وانصرافه إلى النوم، دب الفضول إلى تفكير ابنه عن هذا الماء الذي دفع فيه والده مائة دينار، وانشغل فكره به، وعزم على أن يتحقق من ذلك. حمل القارورة وأخذ يتفحصها ويستذوق ما بداخلها، فإذا به لا يجد شيئاً مميزاً به، وما ذاك إلا ماء كما ء بيتهم، ولا فرق بينهما. فنهض مسرعاً وتوجه إلى والده، مندهشاً صارخاً، يا والدي لقد خدعك ذلك الغريب، فوالله ما زاد على أن باعك ماءً عادياً بمائة دينار، فلا أدري أأعجب من دهائه وخبثه، أم من طيبتك وتسرعك.
فابتسم الحكيم في وجه ولده وقال: يا بني لقد نظرت ببصرك فرأيت أن ما باعني الغريب ماء عادياً، أما أنا فلقد نظرت ببصيرتي وخبرتي فرأيت الرجل يحمل في قارورتة “ماء وجهه”، الذي أبت عليه عزة نفسه أن يريقه أمام الحاضرين بالتذلل والسؤال، وكانت له حاجة إلى مبلغ يقضي به حاجته لا يريد أكثر من ذلك. والحمد لله الذي وفقني أن حققت له رجاءه، وحفظت له “ماء وجهه”. ولو أقسمت ألف مرة على أن ما دفعت له مقابل ذلك لقليل. ما حنثت في يميني. فإن استطعت يا بني أن تفهم حاجة أخيك قبل أن يتكلم بها فافعل. وإنك إن لم تستطع أن تقرأ صمت أخيك فلن تستطيع أن تسمع كلامه.
حفظ ماء الوجه… مصطلح اجتماعي له قيمة عالية، وهو قيمة رفيعة للشخص يتصف بها ما دام محافظاً على صيانة تلك القيمة وعدم الحط من قيمتها من خلا تدنيسها بسفاسف الأمور ومعايب الأخلاق، مما يفقده هذا الشرف، وربما احتاج إلى مزيد من الوقت والجهد وربما المال لاستعادة ذلك الشرف المفقود . حفظ ماء الوجه لا بقتصر على شعب دون سواه، ولا فئة من الناس دون الباقين، ولا شخص دون آخر، الكل يعمل ويحرص على ألا يهرق “ماء وجهه” بأي حال من الأحوال. لكن ماء الوجه ربما يتفارق الناس فيه فيما بينهم باختلاف تميزهم..
فمثلاً: الأب الفقير يحرص دوماً أن لا يتعرض إلى موقف تضطرب فيه صورته الشامخة والقوية أمام أبنائه، والعالم المتبحر في فن من الفنون، لا يرغب أن تسقط تلك الهامة التي يحملها ويجلها له أتباعه ومريديه، ومقيس على ذلك كل عمل جليل أو خلق رفيع اشتهر به شخص محدد أو مجموعة من البشر، حكمت ظروف أو مناسبة عن قصد أو عن غير قصد أن يحدث لها خلل في الزمان والمكان الخطأ.
يذكر أيقونة الفن الصامت السير سبنسر شابلن الشهير بـ (شارلي شابلن) في هذه القصة التي يرويها كأحد المواقف ذات القيمة العالية في حياته، يقول: كنت ذات يوم ووالدي متجهان لاحتفال سيرك، وبينما كنا وقوف في الطابور أمام شباك التذاكر كانت أمامنا عائلة مكونة من ستة أولاد ووالديهم، وكان الفقر بادياً عليهم، لكن الأولاد كانوا فرحين جداً لحضور هذا الاحتفال. إلا أن الوالدين بان عليهما الارتباك والاضطراب عندما علما بقيمة التذاكر التي تفوق إمكانياتهما، وماذا يفعلان ليخرجا بأقل الخسائر أما أبنائهم الستة.
شعر والدي بأن الوالدان لا يملكان قيمة شراء التذاكر، فشاهدته أن أسرع إلى جيبه وأخرج عشرين دولاراً ورمى بها عند قدمي ذلك الأب دون أن يراه، ثم انحنى بسرعة فالتقطها وربت على كتف ذلك الوالد قال له: هذه سقطت منك، نظر الرجل إلى والدي وقد اغرورقت عيناه بالدموع فأخذ المال وشكر والدي، وقد كان مضطراً لأخذ المبلغ حتى لا يقع في الحرج أمام أبنائه، ويسقط “ماء وجهه” وبعد أن تأكد والدي من دخولهم سحب يدي وعدنا إلى المنزل. صحيح أنني ربما انزعجت وقتها من عدم تمكننا من الدخول للسيرك وعدم فهم القصد، إلا أنني منذ ذلك اليوم، عرفت أنني أحظى بأب عظيماً.
إذا.. الإنسان مفطور على الأنفة وحب الذات والظهور أمام الآخرين بمظهر التقدير والاحترام، وينفطر قلبه إن تعرضت هذه الصفات أو أي منها لاضطراب أو اهتزاز، لا سيما أمام أشخاص ربما يكن لهم ويكنون له الود والتقدير ويجلونه ربما لأجل هذه الصفات التي يتحلى بها. ويرى أو يعتقد أنه بذلك الخطأ الذي صدر عنه عن قصد أو عن غير قصد فقد شيئاً من الكرامة والاحترام أمام تلك الفئة الشاهدة للحدث. أو ممن يمكن أن يلتقي بهم ويمكن أن يكونوا سمعوا عن ذلك الموقف المؤلم.
بعد كل هذا … هل يمكن أن يكون هناك أحد من البشر لا يعير لكرامته وحفظ ماء وجهه أي قيمة أو تقدير؟ وجوابي على ذلك… أن أغلب البشر لا يمكن أن يرضوا أو يقبلوا بأن تهرق مياه وجيههم بأي حال من الأحوال ولا لأي ظرف من الظروف، ليس حباً في الوجاهة أو التباهي أمام الآخرين، إنما لأنها فطرة ربانية مغروسة في نفوس البشر للمحافظة على الود والألفة بينهم، وتجاوز الهفوات التي قد تحدث من قريب أو عزيز عن قصد أو ربما عن غير قصد. ومن هذا نعلم أن الخوف من إهراق “ماء الوجه” لا يكون إلا لحاملي القيم العليا والأعمال المميزة، ونقول لهم قروا أعيناً فما هي إلا كبوة تصغر أمام أعمال عظيمة.
وهناك فئة قليلة ” شرذمة قليلون” لا يقيمون لهذا الأمر – ماء الوجهر- أي قيمة، ولا يهمهم في سبيل تحقيق أغراضهم ومآربهم ووصوليتهم أن تتلطخ سمعتهم أو تذل أسمائهم ما دام هناك هدف خسيس يأملون في الوصول إليه أو إيصال الآخرين إليه، ومثل هؤلاء يجب الحذر منهم وفضحهم أمام الناس ليخسأوا ويخنسوا في جحورهم. فليس بعد التنازل عن حفظ ماء الوجه أي قيمة أو تقدير لمثل هؤلاء.
إذا قلَّ ماءُ الوجهِ قلَّ حياؤهُ .. فلا خيرَ في وجهٍ إذا قلَّ ماؤهُ
التعليقات