يعرف التفكير النقدي في أبسط صوره: بأنه قدرة الإنسان على التفكير بوضوح وعقلانية، مع القدرة على استمرار البحث والتعلم، وعدم الاستسلام للتلقي السلبي للمعلومات. وهو يختلف اختلافاً جذرياً عن مفهوم التعليم التلقيني الذي أطلق عليه المفكر البرازيلي باولو فريري في كتابه “تعليم المقهورين” بــ”التعليم البنكي” أي أنه شبيه بالبنك، الذي تودع فيه الأموال للحفظ واستعادتها كما هي عند الحاجة، وهذا النوع من التعليم في معظم الأحوال لا يتولد عنه سوى البلادة وقتل الإبداع.. أحسن صنعا تعليمنا عندما أدرج هذا المنهج ضمن التعليم الثانوي، ولعله مع استيعاب أهمية هذا النوع من المواد، نرى نتائج مختلفة عما تعودنا عليه في كل عام.
التفكير النقدي تنبه له علماء أفذاذ في عصر النهضة الإسلامية فسطروا أعظم الصور في شتى المجالات العلمية والطبية والفلكية والهندسية وغيرها، وكان عملهم التحقق من موثوقية المعلومة والشك المنهجي والتساؤل والتجربة فأنتجت أعمالهم أعظم الأثر وأبلغ النفع، كان منهم ابن الهيثم الذي كان له إسهامات كبيرة في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وطب العيون والفلسفة العلمية والإدراك البصري والعلوم بصفة عامة بتجاربه التي أجراها مستخدمًا المنهج العلمي، وله العديد من المؤلفات والمكتشفات العلمية التي أكدها العلم الحديث، ومنهم البيروني الذي وصف بأنه من بين أعظم العقول التي عرفتها الثقافة الإسلامية، وقد قال بدوران الأرض حول محورها في كتابه: مفتاح علم الفلك، والزهراوي والذي يعد أعظم الجراحين الذين ظهروا في العالم الإسلامي، ووصفه الكثيرون بأبي الجراحة الحديثة. أعظم مساهماته في الطب هو كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف»، الذي يعد موسوعة طبية من ثلاثين مجلدًا، وابن حيان الذي برع في علوم الكيمياء والفلك والهندسة وعلم المعادن والفلسفة والطب والصيدلة، ويُعد جابر بن حيّان أول من استخدم الكيمياء عمليًا في التاريخ، وهناك ابن النفيس الذي له إسهامات كثيرة في الطب، ويعتبر مكتشف الدورة الدموية الصغرى، وأحد رواد علم وظائف الأعضاء في الإنسان. والقائمة تطول.
إذا أراد مسؤولي التعليم في بلادنا الخروج من دوامة التكرار وتكرار النتائج السلبية للأسف، فعليهم إعطاء مفهوم التفكير النقدي القائم على التحقق من موثوقية المعلومة والتشجيع على الشك والتساؤل مزيداً من الاهتمام والتركيز، وجعل المناهج الدراسية مبنيه على هذا المنهج وهذا الأسلوب، وهذا بدوره سوف يساعد الطلاب على استخدام مهارات التفكير الناقد الذي يمهد الطريق للمعلومة الصحية المراد إيصالها عن طريق تشجيع الطلاب على استخدام ملكاتهم الذهنية تفكيراً ونقاشاً وتجربة مما يرسخ في أذهانهم المعلومة ويدعوهم للبحث فيها واستقصاء جوانبها مما يجعل من استيعابها عميقاً ومكتملاً، وهذا بدوره يمنح الطلاب في بعض الأحيان الإضافة للمعلومة أو التعديل عليها بما يحقق الهدف المنشود وترسيخ الفكرة، وهذا خلاف التعليم التلقيني الذي يجعل العقل خاملاً متبلداً آليا مهمته الوحيدة تخزين المعلومة كما هي دونما أدنى نظر أو تفاعل معها.
التفكير النقدي هو إعمال العقل لفهم المدخلات، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم في عديد الآيات من خلال التشجيع على البحث والتفكر وإعمال العقل وكما كان كذلك فقد ذم أيضاً العقل الخامل المتبلد الساكن، قال تعالى: ( وَتِلْكَ ٱلْأَمْثَٰلُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلَّا ٱلْعَٰلِمُونَ) العنكبوت 43، وقوله تعالى: ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) الأنفال 22، وقال عز وجل: ( وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّليۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ ) النحل 12 والقرآن الكريم مليء بالدعوة إلى التأمل والتفكر والشك والتساؤل، قال تعالى: ( وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ ) البقرة 260 ، وقوله عز وجل: ” (وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِيٓ أَنظُرۡ إِلَيۡكَۚ ) الأعراف143
إذا التفكير النقدي قبل أن يكون متطلباً فكرياً هو مطلب رباني، لأن ذلك يخلق حاجزاً متينا لدى أبنائنا يمنعهم عن الانجراف خلف ترهات القول وسفاسف الأمور ، فيُخضِعون ما يُلقى عليهم على مشرط الفحص والمراجعة، والشك والمساءلة، فما تحققت فيه شروط الصحة والعقلانية والمنطقية، كان جديراً بتبنيه والعمل عليه، وما كان مبنياً على مصالح شخصية وأهداف وصولية، رد غير مأسوفاً عليه. لو تم تبني هذا المفهوم من التفكير في مناهجنا في الفترة السابقة لساعد ذلك في الحد من الوقوع فيما وقع فيه الكثير من أبنائنا وسقوطهم في مطبات الاعتقادات الباطلة التي جعلت منهم منساقين خلف أوهام وأمنيات عاجلة أو آجلة استخدم في ترسيخها في عقولهم وغرسها في قلوبهم وسائل متعددة ومتنوعة الشكل والمضمون، أدت بهم في النهاية إلى الانغماس في أتون ظلامية رمت بهم إلى جحيم التطرف وقطع الرقاب باسم الله. ولكنا بدلاً من ذلك رأينا، ابن الهيثم والزهرواي وابن حيان بين أبنائنا، وفي جنبات حاراتنا، ولأصبح الرأي والرأي الأخر مقبولاً بيننا. (وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ) الرعد3
رعاكم الله
M1shaher@gmail.com
التعليقات