رحم الله الصديق النبيل حسن الشهري، الذي كان يُؤثر أصدقاءه على نفسه ولو كان به خصاصة، ساهم في الدفع بعشرات الصحفيين الذين يتبوّؤون الآن مواقع مهمة في هيئات ومؤسسات إعلامية مختلفة..
أيتها النفس أجْملي جَزَعا .. إنّ الذي تَحْذَرينَ قَدْ وَقعَا
هكذا ارتأى الشاعر الجاهلي أن يجابه فزع الموت ببسالة اليقين؛ مُقتفياً أثر أسلافه العرب في الجاهلية الذين كانوا – وهم لا يرجون ثواباً ولا يخشون عقاباً – يتحاضّون على الصبر، ويعرفون فضله، ويُعيّرون بالجزع أهله، إيثاراً للحزم وتَزَيُّناً بالحلم، وطلباً للمروءة، وفراراً من الاستكانة إلى حُسْن العزاء، حتى إنْ كان الرّجلُ منهم ليفقدُ حَميمَهُ فلا يُعْرف ذلك فيه.
بمثل هذه المُخادعة والتربيت على كتف الألم نعمد إلى التصالح مع الموت كحقيقة لا مفرّ منها، أيّاً كانت كُلفة الوجع وفداحة الغياب. الأخ والصديق حسن محني الشهري الذي ودّعنا قبيل أيام، لم يكن إعلاميّاً أو صحفيّاً عاديّاً؛ فقد كان الراحل متعدد المواهب والقدرات بحيث من المجحف اختزاله في لقب إعلامي أو صحفي أو كاتب بات لقباً متاحاً للكثير؛ لا تقليلاً منها كمهن أو هوايات، ولكن لأن الراحل الكبير يحتشد بطاقات فكرية وأدبية قلّ أن تجتمع في الكثير، فهو إلى جانب كونه أديبا وشاعرا مبدعا وصحفيا لامعا ومثقفا عميقا يحمل رؤى متبصّرة، إلاّ أنّه كما يُقال: شَغَلَهُ عن الشِّعْرِ الشعير، نعم كان مثقلاً بأعباء الحياة واستحقاقاتها وحاول جاهداً أن يوائم بينها وبين مواهبه إلاّ أن الاستحقاقات كانت أكبر مِنْ أن تستوعب مثل هذا الترف الوجودي.
وكنت قد قرأتُ لحسن الشهري العديد من قصائده؛ وحاولت ملامستها عن قرب؛ فوجدتُ أنّ شعره برغم بساطته الواضحة؛ إلاّ أنّ حرفه وشعره مُراوغاً وبساطة أبياته مُضللة؛ فقصائده مترعة بالتفاصيل؛ فكانت دراما صغيرة حيناً وكبيرة أحيانا، إذ أن في قاعها البعيد السحيق ثمّة حركة كامنة؛ أي أنّ هناك بذرة سردية ما تزال قابعة في ثنايا نصوصه
تنتظر من يرفع غطاء اللغة عنها ويزيل شيئا من كثافة غلالتها الغنائية الجياشة، قرأت لحسن أكثر من ديوان وبدت لي تجربته المميزة والمغفلة – للأسف – عن الدراسة بدت تجربة ثرية وصادقة؛ فالشعر ارتبط بحسن الشهري ارتباطاً وثيقاً، ولعل هذا ما يوضح مسلكه الحياتي الخاص لمن يعرفه حيث الشعرية تمكنه حتى في أدق وأبسط التعاملات
اليومية؛ ولا غرو أن يكون الشعر متنفسا تجربته الحياتية بكافة تفاصيلها بعد أن اختار لها الشعر كأداة تعبيرية فالشعر – كما هو معروف – يظل الغصن الأرقى في شجرة الأجناس الأدبية.
ففي إحدى قصائده بعنوان: ” تداخلات الأمل والواقع” نجد أن هذه القصيدة رغم جماليتها المُنسكبة والمتدفقة سلاسة إلا أنها سلاسة مُضلّلة وخادعة؛ فالبساطة التي تلبّستها القصيدة في الواقع مضللة إلى حد كبير، فشعر حسن برغم عاطفته الجياشة فهو “شِعْر الحكمة والحياة”، فهو نابض بالحكمة والفلسفة وبالنبض في كونه الشعري الذي خلقه بكل تشكلاته وتمظهراته العابقة بالفلسفة الخاصة به التي عبر عنها شعرا.
لقد كان الجانب الأدبي في حسن الشهري غائباً ولم يجد الاحتفاء الخليق به؛ بالرغم من أنه ساهم في رفد الساحة الشعرية بصفحة شعبية متخصصة بالأدب الشعبي وخرج من تلك الصفحة أسماء شعرية مهمة شكّلت حضوراً وطنياً لافتاً.
كان يملك مفردة أنيقة ذات تلوينات إبداعية تنهض على مشاكسة السائد ومراوغته والتملص منه لترتقي إلى مستوى من الأداء يغذي فاعلية نصوصه وينعشها بكثير من المفاجآت والتنويعات في أساليب قوله الشعري، يقول في قصيدته:
ونته تهجّيني .. هواك وهوايه
ترسم لي الخطوة .. على دربنا الشاق
غفلت لحظة عنك .. ما هو بهوايه
وإذ “بالمسار” يميل وتحار بي الساق
وأحسست بك “منته” معي في مدايه
ضاع الصدق والصوت .. في بهو الآفاق
وأصبحت في عالم نهاره .. مسايه
ثوب الظلام .. يمثل خيوط الإشراق
والصدق كذب .. وخدعة الناس غاية
واللي مثالي خلف الأنظار .. بواق
والعاشق الكاذب .. ربيب الوشاية
إلى أن يقول:
وهذي جوانب من مآسي .. حكاية
لمحتها لحظة تجلّي .. واطراق
وشعرت بالواقع .. يعمّق أسايه
والكل من حولي .. مواويل وعناق
رحم الله الصديق النبيل حسن الشهري الذي كان يؤثر أصدقاءه على نفسه ولو كان به خصاصة، ساهم في الدفع بعشرات الصحفيين الذين يتبوّؤون الآن مواقع مهمة في هيئات ومؤسسات إعلامية مختلفة؛ يتابعهم عن بعد وقرب ويفرح بنجاحهم دونما انتظار مقابل، هكذا هم الكبار يرحلون بأجسادهم وتبقى مآثرهم مُشعّة نابضة بالعطاء والتقدير والاحتفاء. يقول في إحدى تغريداته: تسللت كورونا لأسرتي بدءًا بالفلة الصغيرة وفاء ومروراً بأمها وابنتي الكبرى ثم بي. الحمد لله على القضاء والقدر خيره وشره، والحمد لله على عظمة هذه الدولة “# السعودية – العظمى” وعلى هذه الرعاية للمواطنين والمقيمين حتى عُدت من أوائل الدول في علاج كورونا بكل الإمكانات التي رصدت من أجلها المليارات. رحم الله أبا مهند وربط على قلب أسرته ومحبيه وألهمهم الصبر والسلوان.
التعليقات