صحيفة النماص اليوم :
لأن العمائم تيجان العرب ورمز عزتهم كما في الأثر، ابتكر أهالي جنوب السعودية ( مناطق عسير وتهامة ) في لحظة تاريخية عمائم خاصّة بهم تميّزهم عن العالمين، ليس بمنظرها فحسب بل بعطرها أيضًا، فعمائم الرجال في تلك المناطق تعلوها طبقات من نبات الريحان العطري توضع بطريقة معيّنة بحيث تنشر شذاها أين ما اتجهت العمامة أو صاحبها في منظر لافت وبديع يُعدّ علامة تعريفية مميّزة يُعرف بها رجال منطقة عسير .
ويبدو أن الطبيعة في منطقة جنوب السعودية أبت إلا أن تصبغ إنسان هذه المنطقة بكثير من العادات المرتبطة بما منحته من ميزات في النبات والمناخ والتضاريس الجغرافية من سهول ووديان وجبال تمتاز بالخضرة، إذ ينساب عليها الماء طيلة أيام السنة سواء من الأمطار التي لا تكفّ عن الهطول إلا أشهرًا معدودة، أو من أعالي تلك الجبال حيث يتدفق الماء زلالاً مضفيًا الكثير من الجمال على تلك البقاع. ويؤلف لها ثنائية الخضرة والماء ويترافقان.
وتدخل النباتات الزهرية والعطرية التي تنمو بكثافة عالية للغاية في مناطق الجنوب السعودي، في كافة تفاصيل حياة الناس هناك، فهي تنتشر داخل وخارج المنازل، وفي المساجد وفي المدارس، وعلى الطرقات والأسواق، وفي جميع عاداتهم وتقاليدهم المتوارثة من قدم، كما يعتمرها الرجال في رؤوسهم وتحرص النساء على تواجدها الدائم داخل حقائبهن اليدوية أو يعلقنها على ملابسهن، لتنشر أريجها الفوّاح في الفضاء، والحال كهذه، لا يجد أهالي الجنوب أنفسهم في حاجة إلى شراء العطور الباريسية الغالية أو دهن العود الباهظ الثمن، فالريحان والكادي والطريقة التقليدية التي يوضع بها، أغنتهم عن ذلك، وجعلتهم يزهدون في تلك العطور الصناعية.
ومنذ سنوات الصبا الباكرة، يبدأ الفتيان في مناطق الجنوب السعودي على التدريب على مهارات وضع أكاليل الريحان على الرؤوس بالطريقة الدائرية المتوارثة من قدم، ويتلقى الصبي دروسًا مكثفة من والده أو عمه أو أشقائه الكبار حتى يجيد وضع الريحان بالطريقة المُعتادة، فوضع الريحان هو مكمل لمظهر الفتى والرجل ومن علامات الوجاهة والمنظر الحسن، ويسمى وضع الريحان على الرؤوس بـ”العصابة” أو “الهامة” أو “الغراس”، وهي أشبه ما تكون عند اكتمالها بالتاج.
ويتفنّن الشباب عادة في اختيار الريحان الجيّد والفاقع الخضرة ليضعوه على رؤوسهم أو عمائمهم، في محاولة لمنافسة الشيوخ من كبار السن الذين يحرصون على الظهور في الأماكن العامّة في أبهى عمامة من الريحان والكادي، فهو تراث آبائهم وأجدادهم، ورمز لرجال مناطق الجنوب دون سواهم، يعكس ارتباط الناس في تلك المناطق بالعطور والتزيّن وحرصهم على الاستفادة مما منحتهم الطبيعة من مختلف أنواع النباتات العطرية والزهرية والتي وجدت في مناخات الجنوب السعودي الآسرة الجو المناسب لكي تنمو وتتكاثر بغزارة قلّ نظيرها.
ويضع الرجل الجنوبي “الغراس” على رأسه لتزيّن شعره وتضفي عليه رائحة عطرية، ويحرص على ذلك عند حضور المناسبات الاجتماعية والذهاب إلى الصلاة وخاصة الجمعة، ويحرص الاهالي على ارتداء الغراس كإشارة إلى محافظته على هذه العادة الأصيلة، وتعبيرًا عن عشقه لزهور ورياحين المنطقة، ويرون أن ربط الرأس بالغراس تقليد ضارب في القدم لدى أبناء المنطقة الذين ولدوا وتربوا منذ طفولتهم عليها كعادة رجالية، كما أن اللوية أو العصابة اشتقت تسميتها من طريقة وضعها على الرأس، فهناك من يعصبها على رأسه فتسمى عصابة، وهناك من يلويها فقط على الرأس وتسمى في هذه الحالة لوية، وكانت النساء قديمًا تقوم بحياكتها بطريقة فنيّة ومتناسقة في منازلهن، لدرجة أنهن يتنافسن فيما بينهن حول العصابة الأكثر جمالاً والأزكى رائحة، أما الآن فيمكن شراؤها من كبيرات السن المتواجدات في أسواق المنطقة الشعبية.
يقول يحيى الشبرقي وهو أحد المهتمين بتراث منطقة عسير جنوب السعودية إن العصابة والهامة تتكوّن من خليط من الزهور تتحكّم في تشكيلة مواسمه التي ينبت فيها وإن كان لهم طرائقهم وأساليبهم في حفظه لأزمنة متواصلة ومن هذه الزهور التي تنتجها جبال وصدور وسهول عسير وجازان ( البرك والريحان والكادي والوزاب والورد والبعيثران والسكب والألب والشذاب والخزامى والجثاث ) وذلك على سبيل المثال لا الحصر ثم هناك توليفات وتشكيلات من هذه العصائب من حيث مزاجية الرائحة، ويضيف الشبرقي: إنه وجد بينهم ابتكارات وموضات لها فما يلبسه الشباب غير ما يلبسه الكبار والشيوخ ومنها ما تتفاعل رائحته نهارًا عند تعرّضه للشمس وعادة يجعلونها للأسواق ومناسبات النهار ومنها ما تفوح رائحته ليلاً للحفلات والسهرات التي يقيمونها على ضوء النار، وقد كانوا في السنين الماضية يلزمون أنفسهم بألا تلبس هذه العصابة دون تكامل الزي التهامي البدوي المكوّن من إزار وقميص، ويزيد بأن العصابة تلبس بشكل دائري على الرأس حيث تنظف بواسطة ورق السدر والدهانات الجيدة ويلفّها على شكل حلزونات دائرية بعد أن يفرق شعره من مقدمة رأسه إلى نهايته نصفين من الشعر الحلزوني الذي يسمونه في لغتهم (زقر) بل إن البدوي لا يملّ أن تجده طول يومه يتسلّى بتلفيف شعره على أصابعه مثلما يسلي نفسه البعض بالمسبحة.
ويوضّح أحد أهالي منطقة تهامة (سعيد العسيري): بأن الريحان من تراثنا وتاريخ للآباء والأجداد، حيث عرفنا الريحان من نعومة أظفارنا وكان مزروعًا في كل شرفة من شرفات المنزل، وأمام المساجد، وروائحه تنبعث من كل صوب في القرية، وقلما تجد منزلاً لا يكون أمامه الريحان، وبداخله شتلات يتم سقيها والعناية بها كونها إحدى ضرورات الحياة واللبس مثلها مثل العطور اليوم.
ويذكر عبدالله الخلاف الذي يعول أسرته من بيع النباتات العطريّة، أنه ورث هذه المهنة من والده منذ زمن بعيد، مشيرًا إلى أن الإقبال على شرائها ما زال قائمًا خاصة أيام العطل الأسبوعية، حيث يزداد شراء هذه النباتات من البرك والشذاب والريحان والكادي، لافتًا إلى أن أسعارها لم تتغيّر ويصل سعر الكادي إلى 15 ريالاً للحبة، والبرك والريحان بريال واحد. وأضاف: إن أكثر المقبلين على هذا النوع من النباتات هم كبار السن والنساء اللاتي يفضلنها خاصة في مناسبة الأعراس، مبينًا أن مناطق تهامة عسير بشكل عام تشتهر بكثرة المزارع التي تنتج البرك والريحان والكادي.
ولا يعرف تاريخ محدّد لبداية تقليد وضع الريحان على رؤوس الرجال في مناطق عسير وتهامة، لكن يغلب الاعتقاد بأنها عادة تضرب عميقًا في تاريخ جنوب السعودية، ويبدو أن الانتشار الكثيف لنبات الريحان والكادي والفل والبعيثران وكلها نباتات عطرية، في هذه المنطقة دفع الناس إلى الاستفادة منها بدلاً من العطور المصنوعة، حيث يبقى الريحان في العمائم صالحًا لنشر عطره لمدّة خمسة أيام متواصلة قبل أن يدخل في طور الجفاف والتساقط، ويحرص أهل الجنوب على استبدال الريحان في عمائمهم صباح كل يوم خاصة في أيام الصيف حيث يكون الريحان وافرًا للغاية في كافة ربوع وأصقاع جنوب السعودية.
التعليقات